مقدمة الحريري (1)

السبت، ديسمبر 18، 2010 التسميات:

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله

( اللهُمّ) أي يا ألله والميم المشددة في آخره وقعت خلفا عن حرف النداء على مذهب سيبويه والبصريين، ومذهب الكوفيين أن الميم عوض عن جملة محذوفة، والتقدير: "يا الله أمنا بخير ". وقيل: إن الميم زائدة للتعظيم والتفخيم لدلالتها على معنى الجمع. قال ابن السيد البطليوسي: وهذا القول أحسن الأقوال. قال ابن ظفر: إن الله للذات، والميم للصفات، فجمع بينهما إيذانا بالسؤال بجميع أسمائه وصفاته، وقواه بعضهم محتجا بقول الحسن البصري: اللهم مجمع الدعاء، وقول النضر بن شميل: من قال اللهم فقد دعا الله بجميع أسمائه، فكأنه قال: يا ألله الذي له الأسماء الحسنى، ولهذا قيل: إنه اسم الله الأعظم. قلت: وبهذا يظهر لك حسن ابتداء المصنف رحمه الله بها ( إنّا نحْمَدُك ) أي نثني عليك بأتم وجوه الثناء جميعها، ورعاية جميعها أبلغُ في تعظيمه تعالى المُراد له بقوله "نَحْمَدُكَ"، حيثُ عبَّر بصيغة الإخبار قاصداً بها إنشاء الحمد، الذي مقامه أعظم من مقام الإخبار. وكثيرا ما يقع موقع الإنشاء بلاغة. ويدخل في قوله: "نحمدك" الشكر؛ إذ هو ثناء أيضا، وفي الحديث: "الحمد رأس الشكر، ما شكرَ الله عبدٌ لا يحمده" رواه معمر في "جامعه" والحمد: الثناء على الرجل بما فيه من صفات جليلة، والشكر: الثناء على الرجل بما له من أفعال جزيلة، من قولهم: دابة شكور؛ إذا ظهر بها من السمن فوق ما تأكل من العلف، وفي المثل: أشْكَرُ من بَرْوَقَة، وهي شجرة تخصب بأدني مطر ( على ما علّمْتَ من البَيانِ ) وهو وضوح الشيء وظهوره، وقال صاحب الكشاف: "البيان: المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير".هـ. والتعليم من الله تعالى إما بخلق العلوم الضرورية في المكلف، وإما بنصب الأدلة السمعية والعقلية ( وألْهَمْتَ ) نبهت إليه. والإلهام: اسم لما يهجس في القلب من الخواطر بخلق الله تعالى ذلك في قلب العاقل فيتنبه بذلك ويتفطن للمعنى ( من التِّبْيان ) وهو تفهم المعنى وتبينه، والتبيان مصدر بينت الشيء تبيينا وتييانا بكسر التاء، وليس في المصادر المبنية على هذا البناء مكسور التاء إلا هذا و"تلقاء" وما عداهما مفتوح التاء كالتسيار والتذكار، وما حاد عن هذا الوزن من الأسماء فمكسورة التاء؛ كالتمساح والتمثال. نص عليه العكبري. وقد يقع التبيان والبيان بمعنى واحد، ومنه قوله تعالى { تبيانا لكل شيء} .

( كما نحْمَدُك على ما أسْبغْتَ ) أغدقتَ وأتممتَ، وفي التنزيل: {وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة} ( منَ العَطاء، وأسبَلْت ) أطلت وأرخيت ( من الغِطاء ) كناية عن الستر. وفي قوله "العطاء" و"الغطاء" جناس خطي [1]، وقوله" أسبغت" و"أسبلت" تجنيس لاحق [2].

( ونَعوذُ ) نستجير ( بكَ منْ شِرّةِ ) بالكسر مصدر الشر، وبمعنى: الحرص والرغبة والنشاط أيضا، والمراد المعنى الأول ( اللّسَنِ ) قال ابن دريد: اللَّسَن مصدر قَوْلهم: رجل لَسِنٌ بَيّن اللَّسَن، إِذا كَانَ حَدِيد اللِّسَان. ومراد المصنف: الاستعاذة من حدة اللسان ( وفضولِ ) زوائد ( الهذَرِ ) أي: إكثار الكلام بغير فائدة ( كما نَعوذُ بكَ منْ معرّةِ ) أي عيب وعار، وفي التنزيل { وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي إثم، وأصلها من العَرَّة، وهي: الفعلة القبيحة، أو من العُرِّ، وهو: الجَرب ( اللّكَنِ ) أي ثقل اللسان وعِيّه، يقال: رجل أَلْكَن وامرأة لَكْنَاء ( وفُضوحِ ) يجوز أن يكون اسما مفردا، وهو مصدر على فعول، أو جمعا لفضح، وأصل الفضح: الكشف، ومنه أفضح الصبح وفَضَح: إذا بدا في سواد الليل، وفضحت الرجل وافتضح إذا كشفت مساوئه ( الحصَرِ ) العي.

وفي "فضول" و"فضوح" جناس لاحق. وفي "شرة اللسن وفضول الهذر" و"معرة اللكن وفضوح العي" مقابلة [3].

( ونَستَكْفي بكَ ) أي نسألك الكفاية من ( الافتِتانَ بإطْراء ) تجاوز الحد والغلو في مدحة ( المادِحِ ) المثني ( وإغضاءِ المُسامِحِ ) أي تجاوزه ومسامحته، وأصل الغض: أن يبدو لك الشيء فتدني جفنيك وتقصر نظرك كأنك لم تره ( كما نَستَكْفي بكَ الانتِصابَ ) التصدي ( لإزْراء ) أي تنقيص واستصغار، يقال: أزريتُ بالرجل إزراء؛ إذا استصغرته، وزريت عليه؛ إذا عبته ( القادِحِ ) الطاعن ( وهتْكِ الفاضِحِ ) أي كشفه، والمراد: طلب الكفاية بالله عن أن يتصدى لتنقيص من قد يقدح فيه، أو لفضح وكشف ستر من يروم فضحه. وهذا من باب الترفع عن مقابلة السيئة بمثلها، بل هو من باب الإحسان الذي أشار إليه قوله تعالى: { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } .

وفي "إطراء" و"إزراء"، و"المادح" و"القادح" طباق إيجاب. وفي "المادح" و"القادح" أيضا جناس لاحق.

( ونسْتغْفِرُك) نسألك المغفرة ( منْ سَوْقِ الشَّهَواتِ) جمع شهوة، وهي: ما يميل إليه الإنسان ( إِلَى سُوقِ الشُّبُهاتِ ) جمع شبهة، وهي ما يشتبه عليك أمره ( كما نستغْفِرُكَ منْ نقْلِ الخَطَواتِ ) جمع خَطوة، وهي ما بين القدمين ( إِلَى خِطَطِ )  جمع خطة، وهي الطريق يختطها المرء لنفسه( الخَطيئَاتِ ) جمع خطيئة، وهي الذنوب. وعلة الاستغفار هنا: أنه جعل ما ساقه في هذه المقامات كأنه شهوة اشتهى عملها، ثم اشتبه عليه هل فيها رضا الله أم سخطه، فكأنه ساق شهوة إلى سُوق لا يدري أتربح صفقته فيها أم تخسر، فلهذا استغفر الله، والله أعلم.

وفي قوله "سوق الشهوات" استعارة ترشيحية؛ لتشبيهه المَسُوق بحيوان تشبيها مضمرا في النفس، وإثبات السَّوْقِ وهو ما يلائم المشبه به للمشبه. وفي قوله "سوق الشبهات" استعارة مكنية؛ لأنه شبه الشبهات ببلدة عظيمة وأثبت الأسواق لها حيث كانت مما يلائم المشبّه به. وفي قوله" سَوْق" و"سُوق": جناس محرف.

( ونسْتَوْهِبُ منْكَ ) أي نطلب منك أن تهبنا ( توفيقاً ) التوفيق: جعل الله فعل عبده موافقا لما يحبه ويرضاه ( قائِداً الى الرُشْدِ ) الهداية، وهذا قيد واقعي؛ إذ التوفيق لا يكون إلا كذلك ( وقَلْباً متقلِّباً معَ الحقّ. ولِساناً متحلّياً ) متزينا ومتصفا ( بالصّدْقِ. ونُطْقاً ) أي منطقا ( مؤيَّداً ) مقوى ( بالحُجّةِ ) أي البرهان والدليل ( وإصابةً ) أي نطقا بالصواب ( ذائِدَةً ) دافعة ( عنِ الزَّيْغِ ) الميل عن الحق إلى الباطل ( وعَزيمةً ) جدا ( قاهِرةً ) غالبة ( هَوى النّفْسِ ) ما تهواه وتميل إليه ( وبصيرةً ) قوة في القلب تدرك بها المعقولات ( نُدْرِكُ بها عِرْفانَ القَدْرِ ) أي معرفة أقدارنا. ( وأنْ تُسعِدَنا ) تعيننا ( بالهِدايَةِ. الى الدِّرايةِ ) العلم وقيل: هو أخص من العلم؛ إذ درى يكون فيما سبقه شك أو بما علم بضرب من الحيلة، ولذا لا يطلق على الله تعالى ( وتَعْضُدَنا ) تعيننا وتقوينا وفي التنزيل {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} أي أعوانا ( بالإعانَةِ. على الإبانَةِ)  إيضاح المشكلات ( وتعْصِمَنا ) تمنعنا (منَ الغَوايَةِ ) الضلال ( في الرّوايَةِ ) نقل الحديث من صاحبه إلى طالبه ( وتصرِفَنا ) تردنا ( عنِ السّفاهَةِ ) الجهل ( في الفُكاهَةِ ) بالضم: المزاح وما تستريح به النفوس ( حتى نَأْمَنَ حصائِدَ الألْسِنَةِ ) أي ما قيل في الناس بالسان وقطع به عليهم، وفي حديث معاذ الشهير: "وهل يكب الناس على وجوهم يوم القيامة إلا حصائد ألسنتهم" قال ابن الأثير: " واحدتُها حَصِيدَة، تَشْبيها بِمَا يُحْصَد مِنَ الزَّرْعِ، وتَشْبيها لِلِّسَانِ وَمَا يَقْتطعه مِنَ الْقَوْلِ بحَدّ المِنْجَل الَّذِي يُحْصَد بِهِ"  ( ونُكْفَى ) نُمنَع ( غَوائِلَ ) جمع غائلة، أي مهالك ( الزَّخْرفَةِ ) تزيين الباطل ( فلا نَرِدَ ) نحضر ( موْرِدَ مأثَمةٍ ) أي موطن إثم ( ولا نقِفَ موْقِفَ مَنْدمَةٍ ) أي ندم ( ولا نُرْهَقَ ) نُحَمَّل ونُغشَّى ( بتَبِعةٍ ) أي بخطيئة يتبعنا ضررها بعد الموت ( ولا مَعتَبَةٍ ) ما فيه عتاب ( ولا نُلْجَأَ ) نُحْوَجَ ( إِلَى معْذِرَةٍ ) اعتذار ( عنْ بادِرَةٍ ) سقطة وزلة، والبادرة: الكلمة والفعلة التي يبادر إليها الإنسان من غير روية فتقع خطأ .

( اللهُمّ فحقِّقْ لَنا هذِهِ المُنْيَةَ)  ما يتمنى ( وأنِلْنا هذِه البُغْيَةَ ) ما يطلب ( ولا تُضْحِنا عنْ ظِلّكَ السّابِغِ ) أي: لا تكشف عنا سترك المديد ( ولا تجْعَلْنا مُضغَةً ) اسم لما يديره الإنسان في فيه، وهو هنا مجاز؛ أي: لا تجعلنا ممن يأخذه الناس بألسنتهم ويقلبونه بأفواههم كالمضغة ( للماضِغِ ) العائب الخائض بلسانه في أعراض الناس ( فقدْ مدَدْنا ) رفعنا ( إليْكَ يدَ المسْألَةِ ) الحاجة والفقر ( وبخَعْنا ) أقررنا ( بالاسْتِكانَةِ لكَ ) التذلل والخضوع ( والمَسْكَنةِ ) الفقر والذلة ( واستَنْزَلْنا ) سألنا بتلطف نزول ( كرَمَك الجَمّ ) الكثير ( وفضْلَكَ الذي عمّ ) شمل ( بضَراعَةِ ) ذل وخضوع ( الطّلَبِ، وبِضاعَةِ الأمَلِ ) الرجاء ( ثمَّ بالتّوسّلِ ) استعمال الوسيلة والتقرب ( بـ ) سيدنا ( محَمّدٍ ) صلى الله عليه وسلم اسم من أسمائه مشتق من اسمه تعالى المحمود، سمي به لكثرة خصاله المحمودة ( سيّدِ البشَرِ ) السيد فَيْعَل من ساد يسود؛ إذا فاق قومه في محامد الخصال حتى قدموه على أنفسهم، واعترفوا له بالفضل. والسيد في اصطلاح الشرع: من يقوم بإصلاح حال الناس في دنياهم وأخراهم معا، وفي الحديث: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر".( والشّفيعِ المُشفَّعِ ) أي الذي يشفع في الناس وتقبل شفاعته فيهم ( في المحْشَرِ ) موضع اجتماع الناس يوم القيامة ( الذي ختَمْتَ بهِ النّبيّينَ ) أي في الإرسال وإن كان أولهم نبوة ( وأعليتَ ) رفعت ( درجتَهُ ) منزلته ( في عِلّيّين ) أعلى الجنة ( ووَصَفْتَه في كِتابِك المُبينِ. فقُلتَ وأنتَ أصدَقُ القائلين: { وما أرْسَلْناكَ إلاّ رحمةً للعالَمينَ } ) كل موجود سوى الباري تعالى ( اللهُمّ فصَلِّ علَيه ) أي عظِّمه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهر دعوته وأبقاء شريعته، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته وإجزال أجره ومثوبته وإبداء فضله للأولين والآخرين بالمقام المحمود، وتقديمه على كافة المقربين في اليوم المشهود، وأفرد الصلاة عن السلام وقد نصوا على كراهة ذلك ( وعلى آلِه ) أي أهله على خلاف في تحديد المراد بهم ( الهادينَ ) المرشدين إلى الخير  ( وأصحابِه ) من لقيه حال حياته مسلما ومات على ذلك ( الذين شادوا الدّين ) رفعوا مناره ( واجْعَلْنا لهَدْيِه ) طريقته ( وهَديهمْ متّبِعينَ. وانْفَعْنا بمحبّتِه ومحبّتِهِمْ أجْمَعينَ. إنّك على كُلّ شيء قديرٌ. وبالإجابةِ جَديرٌ ) حقيق.

[ يتبع إن شاء الله تعالى ]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الجناس الخطي أو الجناس المصحف، هو: ما اتفق فيه اللفظان في عدد الحروف وترتيبها، واختلفا في النقط. وقد يكون في حرف واحد كما هنا، أو في أكثر كما في قوله تعالى { والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين }.

[2] الجناس اللاحق، هو: أن يختلف اللفظان المتشابهان في نوع حرف واحد منهما غير متقاربين في النطق، في الأو، أو الوسط أو الآخر.

[3] المقابلة: أن يأتي بمعنيين فأكثر، ثم يذكر بعد ذلك ما يقابل هذه المعاني على الترتيب.

بقلم : هشام حيجر
خريج دار الحديث الحسنية من المغرب الأقصى ، صدرت له مجموعة من الإصدارات العلمية ، تستطيع متابعتي من خلال ما يلي :

0 التعليقات :

 
واحة الفقيه والمتفقه © 2010 | تعريب وتطوير : سما بلوجر | Designed by Blogger Hacks | Blogger Template by ColorizeTemplates