المقامة الكوفية (2/1)

الجمعة، ديسمبر 06، 2013 التسميات:
بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله


(حَكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: سمَرْتُ) تحدثت ليلة مع جماعة، وأصله  من السمر، وهو سواد الليل (بالكوفَةِ) مدينة بالعراق (في ليلَةٍ أديمُها) جلدها (ذو لوْنَينِ) أبيض وأسود إشارة إلى ضوء القمر وظلمة الليل. (وقمرُها كتَعْويذٍ) شيء يكتب ويعلق (من لُجَينٍ) فضة والمراد عقد فضة يستعمل مستديرا استدارة القمر وبعض الدائرة فارغ فيربط في الدائرة خيط فيعلق في أعناق الصبيان (معَ رُفقَةٍ) صحبة (غُذوا) ربوا (بلِبانِ) ما ترضع به الآدمية ولدها، ولا يقال له لبن، إنما اللبن للبهائم (البَيانِ) الفصاحة (وسحَبوا) جروا (على سَحْبانَ) رجل يضرب به المثل في الخطابة والفصاحة (ذيْلَ النّسْيانِ) طرفه (ما فيهِمْ إلا مَنْ يُحْفَظُ عنْهُ) كلامه وفوائده (ولا يُتَحفَّظُ منْهُ) يتحذر (ويَميلُ الرّفيقُ إليهِ ولا يَميلُ عنهُ) يقال: مال إليه إذا أحب صحبته، ومال عنه: إذا كرهها (فاستَهْوانا) استدعى هوانا والمراد استولى علينا (السّمَرُ) تقدم (إلى أنْ غرَبَ القمَرُ) غاب (وغلَبَ السّهَرُ) عدم النوم (فلمّا روّقَ الليْلُ) أي أظلم وأصله من ترويق البيت، وهو أن يجعل له رواق (البَهيمُ) الذي لايخالط لونه لون آخر (ولمْ يبْقَ إلا التّهويمُ) النوم الخفيف الذي لم يبق من الليل إلا قدر ما يسع نومة خفيفة (سمِعْنا منَ البابِ نبْأةَ) صوتا خفيا (مُستَنْبِحٍ) الذي يصيح كالكلاب، وأصله أن الساري كان إذا ألجاه الجهد أو البرد أو الضلال عن الطريق حكى نباح الكلب لتجاوبه كلاب الحي المتوهم نزولهم في طريقه فيهتدي إليهم بصياحها (ثمّ تلَتْها) تبعتها (صكّةُ) دفعة (مُستفْتِحٍ) طالب فتح الباب (فقُلنا: منِ المُلِمّ) النازل (في اللّيلِ المُدْلَهِمّ؟) شديد السواد (فقال) [شعر]
(يا أهلَ ذا المَغْنى) المنزل (وُقيتُمْ شَرّا) كفيتموه (ولا لَقيتُمْ ما بَقيتُمْ) مدة بقائكم (ضُرّا) ضد النفع (قدْ دفَعُ الليلُ الذي اكْفَهَرّا) اشتدا ظلمته (إلى ذَراكُمُ) منزلكم ونزلكم (شَعِثاً) متغير شعر الرأس (مُغْبَرّا) عليه الغبار (أخا سِفارٍ) ملازم للسفر (طالَ واسْبَطَرّا) امتد وطال سفره (حتى انْثَنى) رجع (مُحْقَوْقِفاً) منحنيا من شدة الهزال (مُصْفَرّا) أصفر اللون (مثلَ هِلالِ الأُفْقِ) أي في الانحناء (حينَ افْتَرّا) انتفخت أطرافه ولم يتقارب (وقد عَرَا) قصد (فِناءكُمْ) منزلكم (مُعْتَرّا) طالب معروف (وأمَّكُمْ) قصدكم (دونَ الأنام طُرّا) أجمع (يبْغي) يطلب (قِرًى) ضيافة (منكُمْ ومُستَقَرّا) موضع قرار (فَدونَكُمْ ضَيْفاً قَنوعاً حُرّا) كريما (يرْضَى بما احْلَوْلى) اشتدت حلاوته (وما أمَرّا) صار مرا (وينثَني) يرجع (عنْكُمْ ينُثّ) يفشي (البِرّا) المعروف. [انتهى الشعر].
(قال الحارثُ بنُ هَمّامٍ: فلمّا خلَبَنا) خدعنا (بعُذوبَةِ نُطقِهِ) حسن منطقه (وعلِمْنا ما وَراء برْقِه) أي: استدللنا بكلامه الفصيح على غزارة أدبه وعلمه (ابتَدَرْنا فتْحَ البابِ) استبقنا إليه (وتلَقّيناهُ بالتّرْحابِ) أي: بقولنا: مرحبا (وقُلْنا للغُلامِ: هيّا هَيّا) اسم فعل بمعنى: أسرع (وهلُمّ) اسم فعل بمعنى أحضر (ما تَهيّا!) الذي تيسر (فقالَ الضّيفُ: والذي أحَلّني ذَراكُمْ) فناءكم (لا تلَمّظْتُ بقِراكُمْ) لا أكلت طعامكم والتلمظ أصله تتبع اللسان ما بقي من الطعام في الفم بعد الأكل (أو تَضْمَنوا لي أنْ لا تتّخِذوني كَلاًّ) ثقيلا (ولا تجَشّموا) تكلفوا (لأجْلي أكْلاً) طعام (فرُبّ أكْلَةٍ) بالضم: اللقمة، وبالفتح: الفعلة الواحدة (هاضَتِ الآكِلَ) أضعفته وأدخلت عليه هيضة، وهي القيء والإسهال (وحرَمَتْهُ) منعته (مآكِلَ) جمع مأكلة أو مأكل (وشَرُّ الأضْيافِ مَنْ سامَ التّكليفَ) أي عرض مضيفه إلى تكلف ما يشق عليه (وآذَى المُضيفَ) أدخل عليه الأذى والضرر (خُصوصاً أذًى يعْتَلِقُ بالأجْسامِ) يلزمها (ويُفْضي) يؤول (إلى الأسْقامِ) الأمراض (وما قيلَ في المثَلِ الذي سارَ سائِرُهُ) انتشر التحدث به ومشى في الناس (خيرُ العَشاء سَوافِرُهُ) بواكره، أي: ما أكل منه بضوء النهار (إلا ليُعَجَّلَ التّعَشّي) أكل العشاء (ويُجْتَنَبَ أكْلُ اللّيلِ الذي يُعْشي) يورث العشا، وهو سوء البصر (اللهُمّ إلاّ أن تقِدَ نارُ الجوعِ) أي: يشتد الجوع (وتَحولَ دونَ الهُجوعِ) تمنع من النوم.
(قال: فكأنّهُ اطّلعَ على إرادَتِنا) من عدم التكليف وإحضار ما تيسر (فرَمى عنْ قوْسِ عَقيدَتِنا) ما انعقدت عليه نياتنا (لا جَرَم) لا محالة (أنّا آنَسْناهُ بالتِزامِ الشّرْطِ) أي قوله: لا تلمظت بقراكم (وأثْنَينا على خُلُقِهِ السّبْطِ) الحسن السهل (ولمّا أحْضَرَ الغُلامُ ما راجَ) تيسر (وأذْكى) أوقد (بينَنا السّراجَ) المصباح (تأمّلتُهُ) نظرته متأملا (فإذا هوَ أبو زيْدٍ) السروجي (فقُلتُ لصَحْبي: ليُهْنَأكُمُ) يسركم (الضّيفُ الوارِدُ) النازل (بلِ المَغْنَمُ البارِدُ) أي الحاصل بلا تعب ولا عناء (فإنْ يكُنْ أفَلَ) غاب (قمَرُ الشِّعْرَى) كوكب معروف (فقدْ طلَعَ قمَرُ الشِّعْرِ أوِ استَسَرّ) خفي (بدْرُ النّثْرَةِ) كوكبان معروفان (فقدْ تبلّجُ) ظهر (بدْرُ النّثْرِ) ضد النظم (فسرَتْ) جرت (حُمَيّا المسَرّةِ فيهِمْ) أي شدة السرور (وطارَتِ السِّنَةُ) أخف من النوم (عنْ مآقِيهِمْ) عيونهم (ورَفَضوا) تركوا (الدَّعَةَ) الراحة (التي كانوا نَوَوْها) أي عزمهم على النوم والراحة (وثابُوا) رجعوا (إلى نشْرِ الفُكاهَةِ) المزاح والكلام الظريف (بعْدَما طوَوْها) ضد نشروها (وأبو زيْدٍ مُكِبٌّ على إعْمالِ يدَيْهِ) أي بالأكل.
(حتى إذا استَرْفَعَ ما لدَيْهِ) أي: طلب رفعه بعدما شبع (قلتُ لهُ: أطْرِفْنا) أتحفنا بطرفة (بغَريبَةٍ منْ غَرائِبِ أسْمارِكَ) جمع سمر وهو حديث الليل (أو عَجيبَةٍ منْ عَجائِبِ أسفارِكَ) جمع سفر (فقال: لقدْ بلَوْتُ) خبرت (منَ العَجائِبِ ما لمْ يرَهُ الرّاؤونَ) الناظرون (ولا رواهُ الرّاوونَ) جمع راوي (وإنّ منْ أعجبِها ما عايَنْتُهُ) شاهدته عيانا (الليلَةَ قُبَيلَ انْتِيابِكُمْ) الإتيان إليكم (ومَصيري إلى بابِكُمْ) رجوعي إليه (فاستَخْبَرْناهُ) طلبنا منه أن يخبرنا (عَنْ طُرفَةِ مَرآهُ) رؤيته (في مسرَحِ) المكان الذي يسرح إليه ويمشي (مسْراهُ) سيره ليلا (فقال: إنّ مَراميَ الغُربَةِ) قواذفها (لفَظَتْني) رمتني (إلى هذِهِ التُرْبَةِ) الأرض (وأنا ذو مَجاعَةٍ وبؤسَى) ضرر (وجِرابٍ) وعاء (كفؤادِ أمّ موسَى) أي فارغا إشارة إلى قوله تعالى: {وأصبح فؤاد أم موسى فارغا} (فنهَضْتُ) قمت (حينَ سَجا) سكن وأظلم (الدُجى) جمع دجية، وهي قطعة من الليل (على) مع (ما بي منَ الوَجَى) الحفا (لأرْتادَ) أطلب (مَضيفاً) محل للضيافة (أو أقْتادَ) أقود (رَغيفاً فساقَني) من السوق (حادِي السّغَبِ) داعي الجوع (والقضاءُ) أي وساقني القضاء (المُكنّى أبا العجَبِ) أي المكنى عنه بـ أبا العجب أو المكنى هو به (إلى أنْ وقفْتُ على بابِ دارٍ فقلْتُ على بِدارٍ) مسرعا [شعر].

(حُييتُمُ) طابت حياتكم (يا أهلَ هذا المنزِلِ) سكانه (وعِشتُمُ في خفضِ عيشٍ) سهله (خضِلِ) ناعم (ما عندكُمْ لابنِ سَبيلٍ) خاطر طريق (مُرمِلِ) لا زاد له (نِضْوِ سُرًى) هزيل من مشي الليل في الأسفار (خابِطِ ليْلٍ) الذي يمشي فيه على غير هداية (ألْيَلِ) شديد الظلمة (جَوِي الحَشى) فاسد الجوف من شدة الجوع  (على الطّوى) الجوع (مُشتَمِلِ) منضم ( ما ذاقَ مذْ يومانِ طعمَ مأكَلِ) شيء يؤكل (ولا لهُ في أرضِكُمْ منْ مَوْئِلِ) ملجأ (وقد دَجا) ألبس (جُنْحُ) سواد (الظّلامِ المُسبِلِ) المطبق (وهْوَ منَ الحَيرَةِ في تملْمُلِ) توجع (فهلْ بهَذا الرَّبعِ) المنزل (عذبُ المنهَلِ) موضع الماء (يقول لي: ألْقِ عَصاكَ) أي اترك السير وأقم (وادخُلِ وابْشَرْ) افرح (ببِشْرٍ) طلاقة وجه (وقِرًى مُعجَّلِ) ما يهيأ لإكرام الضيف.[انتهى الشعر].

بقلم : هشام حيجر
خريج دار الحديث الحسنية من المغرب الأقصى ، صدرت له مجموعة من الإصدارات العلمية ، تستطيع متابعتي من خلال ما يلي :

0 التعليقات :

 
واحة الفقيه والمتفقه © 2010 | تعريب وتطوير : سما بلوجر | Designed by Blogger Hacks | Blogger Template by ColorizeTemplates