المقامة الصنعانية (2)

الأربعاء، ديسمبر 22، 2010 التسميات:

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله

قال العلامة أبو محمد القاسم بن علي الحريري رحمه الله:

( ثمّ إنّهُ لبّدَ ) سكَّن ( عَجاجَتَهُ ) صياحه، يقال: رجل عجَّاج وعَجْعَاج؛ أي صيَّاح، والمراد أنه قطع كلامه وكف عما كان فيه ( وغيّضَ ) جفف ( مُجاجتَهُ ) ما كان يسيل من عينيه وأنفه عند البكاء، ومُجاج الشيء: عصيره، ومُجام فم الجارية: ريقها ( واعْتَضَدَ ) جعلها تحت عضُده ( شكْوَتَه ) قربة ماء صغيرة تصنع من جلد البقر أو الخروف، وفى حديث عبد الله بن عمرو «كَانَ لَهُ شَكْوَةٌ يَنْقَعُ فِيهَا زّبِيباً» قال ابن الأثير: الشَّكْوَةُ وِعاَء كالدَّلْو أَوِ القِرْبة الصَّغِيرة، وجَمعُها شُكًى. وقيل جلد السّخلة مادامت تَرضَع شَكْوَةً، فَإِذَا فُطمَت فَهُوَ البَدْرة، فَإِذَا أجْذَعت فَهُوَ السِّقاء ( وتأبّطَ ) جعل تحت إبطه ( هِراوَتَهُ ) عصاه ( فلمّا رنَتِ ) نظرت ( الجَماعَةُ الى تحفُّزِهِ ) تهيؤه للذهاب ( ورأتْ تأهُّبَهُ ) استعداده ( لمُزايَلَةِ ) لمفارقة ( مركَزِهِ ) موضعه الذي أقام به ( أدْخَلَ كلٌ منهُمْ يدَهُ في جيْبِهِ، فأفْعَمَ ) ملأ ( لهُ سَجْلاً ) السجل: الدلو الملآن ماء، ولا يقال للدلو سجلا إذا كانت فارغة، والمعنى أنه وهب له نصيبا عظيما، وجمع سَجْل: سِجَال (منْ سَيْبِه ) عطائه، ومنه قيل للركاز سيب؛ لأنه من عطاء الله ( وقال: اصْرِفْ هَذا في نفقَتِكَ، أو فرّقْهُ على رُفْقَتِكَ ) أصحابك ( فقبِلَهُ منهُم مُغضِياً ) مستحييا، وأصل الإغضاء: كف البصر وضم الجفنين ( وانْثَنى ) رجع وانعطف عن طريقه ( عنْهُم مُثْنِياً ) شاكرا ( وجعَلَ يودِّعُ مَنْ يُشيّعُهُ ) أي يخرج معه يريد صحبته وإيناسه إلى موضع ما ( ليَخْفَى علَيْهِ مَهْيَعُهُ ) طريقه ( ويُسرّبُ ) يفرق فرقا، كل فرقة منهم سرب، أو هو مأخوذ من السارب؛ أي الذاهب في الأرض، والمعنى أنه يذهب بهم في كل ناحية مبالغة في تعمية طريقه ( منْ يتْبَعُهُ، لكَيْ يُجْهَلَ مرْبَعُهُ ) منزله ومقامه، يقال: ربعت بالمكان؛ أي أقمت فيه.

( قال الحارِثُ بنُ هَمّامٍ: فاتّبعْتُهُ مُوارِياً ) ساترا ( عنْهُ عِياني ) شخصي ( وقَفوْتُ ) تتبعت ( أثرَهُ منْ حيثُ لا يَراني، حتّى انْتَهى الى مَغارَةٍ. فانْسابَ ) دخل بسرعة، وأصل الانسياب: جريان الحية والماء على وجه الأرض، ولا يكون الانسياب إلا على وجه الأرض ولا يقال: انساب في الجُحر، ونقل الشريشي عن بعض أهل اللغة أن قول الحريري رحمه الله هنا انساب وهم، وأن الأنسب لو قال: انشام فيها، تشبيها بالسيف إذا وضع في غمده ( فيها على غَرارَةٍ ) غفلة ( فأمْهَلْتُه ريثَما ) قدر ما ( خلَعَ نعْلَيْهِ، وغسَل رِجلَيْهِ، ثمّ هجَمْتُ علَيهِ، فوجدتُهُ مُحاذياً ) ملاصقا أو جالسا بحذائه ( لتِلْميذٍ ) متعلم الصنعة ( على خبْزِ سَميذٍ ) حواري نقي، وهذا اللفظ ليس بعربي ( وجَدْيٍ ) ولد الماعز الذكر ( حَنيذٍ ) مشوي بحجارة محماة ( وقُبالَتَهُما ) تجاههما ( خابيةُ نبيذٍ ) خمر ( فقلتُ لهُ: يا هذا أيَكونُ ذاكَ خبرَكَ ) أي كلامك إشارة إلى ما سبق منه من التزيي بحال النسك والوعاظ ( وهذا مَخْبَرَكَ؟ ) باطنك وما يختبر منك ( فزَفَرَ ) تنفَّس ( زفْرَةَ القَيْظِ ) شدة الحر، شبه ما أبداه من شدة الغيظ بوهج الحر ( وكادَ يتميّزُ ) يتقطع وينفصل بعضه عن بعض، وفي التنزيل: { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ } ( منَ الغيْظِ ) الغضب الشديد، وهو أشد الحَنَقِ ( ولمْ يزَلْ يحَمْلِقُ إليّ ) ينظر بشدة، والحملقة: نظر الغضبان ( حتّى خِفْتُ أن يسطُوَ عليّ ) يبطش بي ( فلمّا أن خبَتْ ) انطفأت ( نارُهُ ) أي نار غضبه، والمعنى: هدأت وسكنت حدة غضبه ( وتَوارَى ) تغطى واستتر ( أُوارُهُ ) لهبه ونار غيظه، والأوار: وهج النار ( أنْشَد: لبِسْتُ الخَميصةَ ) كساء أسود مُربَّع له عَلَمَان، وقيل: هو ثوب خز أو صوف مُعلَّم بالسواد يلبسه النساك ( أبغي الخَبيصَهْ ) نوع من الحلوى ( وأنْشَبْتُ ) أدخلت ( شِصّيَ ) حديدة معوجة يصطاد به السمك، وهي الصنارة ( في كل شِيصَه ) أي في كل ما يحتال عليه، وهذا اللفظ فارسي معرب ( وصيّرتُ وعْظيَ أُحبولَةً ) آلة للصيد ( أُريغُ ) أطلب على وجه المراوغة والخديعة ( القَنيصَ بها والقَنيصَه ) الذكر والأنثى مما يصاد من الوحش، ومراده هنا: ما يأخذه من الناس بالحيل ( وألْجأني ) أحوجني ( الدّهْرُ حتى ولَجْتُ) دخلت ( بلُطْفِ احتِيالي على اللّيثِ ) الأسد ( عيصَه ) بيته، وأصله: الشجر الملتف ( على أنّني لم أهَبْ ) أخف ( صرفَهُ ) تقلبه ( ولا نبَضَتْ ) تحركت ( لي مِنْهُ فَريصَه ) لحمة في الكتف تتحرك عند الفزع ( ولا شرَعت ) دخلت ( بي على ) بمعنى في، تقول: حدث هذا على عهد فلان؛ أي في عهده ( مَورِدٍ ) موضع الماء ( يُدنّسُ ) يوسخ ويعيب ( عِرضيَ ) ذكري ( نفْسٌ حَريصَه ) كثيرة الرغية والطمع ( ولو أنْصَفَ الدّهرُ في حُكمِهِ ... لَما ملّكَ الحُكْمَ أهلَ النّقيصَه ) العيب، والخصلة الدنيئة [ تم النظم ].

( ثمّ قال ليَ: ادْنُ ) اقرَبْ ( فكُلْ، وإنْ شِئْتَ فقُم وقُلْ. فالتَفَتّ الى تِلميذِه وقُلتُ: عزَمْتُ ) أقسمت ( عليْكَ بمَن تستَدفِعُ بهِ الأذى ) تطلب دفعه، والأذى: الضرر ( لتُخْبرَنّي مَنْ ذا؟ فقال: هذا أبو زيْدٍ السَّروجيُّ ) قيل: إنه رجل من أهل البصرة، وكان شيخًا شحاذًا أديبًا بليغًا فصيحًا، ورد البصرة، فوقف في مسجد بني حرام، فسلّم، زأظهر التوبة من ذنبه وسأل عن الوجه في كفارته، فقام رجل من بين الناس فذكر أسر ابنته، فنظم الحريري القصة وجعلها مقامة، وأنها أول مقامة أثبت في الكتاب، ثم بنى عليها سائر المقامات التي تبلغ خمسين مقامة ( سِراجُ ) مصباح ( الغُرَباء ) لأنهم يهتدون بحيله ( وتاجُ الأدَباء ) لأنهم يتزينون به ( فانصرَفْتُ ) رجعت ( من حيثُ أتيتُ، وقضَيْتُ العجَبَ ) أي أتممته ( ممّا رأيْتُ ).

بقلم : هشام حيجر
خريج دار الحديث الحسنية من المغرب الأقصى ، صدرت له مجموعة من الإصدارات العلمية ، تستطيع متابعتي من خلال ما يلي :

1 التعليقات :

عبد الله اللطيف الرحماني ربن الهند يقول...

بارك الله فيكم نفعنا كثيرا بهذا الشرح المفيد الكافي

 
واحة الفقيه والمتفقه © 2010 | تعريب وتطوير : سما بلوجر | Designed by Blogger Hacks | Blogger Template by ColorizeTemplates