مقدمة الناظم+ الفصاحة

الخميس، ديسمبر 16، 2010 التسميات:

بسم الله الرحمن الرحيم

458

الحمد لله الذي زين منطق الإنسان بسحر البيان، وكشف به عن حقائق المعارف وأسرار العلوم ببديع المعاني. والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفصح بني عدنان، وعلى آله وصحبه ما لهج بذكره وذكرهم لسان .

وبعد؛

فهذا شرح لطيف على منظومة العلامة القاضي محب الدين ابن الشحنة الحنفي الحلبي رحمه الله تعالى في علوم البلاغة، يحل ألفاظها، ويذلل صعابها، ويكشف عن مخدرات حسنها، والله تعالى الموفق لإتمامه، المسؤول أن ينيلنا الإخلاص في كل قول وعمل.

[ مقدمة الناظم ]

قال الناظم رحمه الله تعالى :

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلّهِ وَصَلَّى اللّهُ

عَلَى رَسُولهِ الَّذِي اصْطَفَاهُ

مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَا

وَبَعْدُ قَدْ أَحْبَبْتُ أَنِّي أَنْظِمَا

فِي عِلْمَيِ الْبَيَانِ وَالمَعَانِي

أَرْجُوزَةً لَطِيفَةَ المَعَانِي

أَبْيَاتُهَا عَنْ مِائَه لَمْ تَزِدِ

فَقُلْتُ غَيْرَ آمِنٍ مِنْ حَسَدِ

قلت:

الناظم هو: أبو الفضل محمد بن محمد بن محمد الشهير بمحب الدين ابن الشحنة الحلبي، فقيه حنفي ، عالم فاضل، ولي القضاء والنظر في جيش حلب والتدريس والخطابة بالجامع الأموي. له عدة تآليف، منها: شرح الهداية في الفقه الحنفي، المنجد المغيث في علم الحديث، اختصار النشر في القراءات العشر، اقتطاف الأزهار في الذيل على روض المناظر، تنوير المنار في الأصول، الدر المنتخب في تاريخ حلب وغيرها. توفي بالقاهرة عام 890هـ.

وحاصل ما ذكره الناظم رحمه الله تعالى هنا - بعد افتتاحه نظمه بالبسملة والحمدلة والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما جرت عليه عادة العلماء رضي الله تعالى عنهم في افتتاح مصنفاتهم وكتبهم العلمية المنظومة والمنثورة – أنه قصد إلى تأليف كلام منظوم مقفى موزون وهذا معنى النظم في علمي البيان والذي يشمل : البيان والبديع، وعلم المعاني، وذلك في أرجوزة وجيزة الألفاظ كثيرة المعاني، على أن لا تزيد عدد أبيات هذه الأرجوزة عن مائة بيت.

[ الفصاحة ]

قال الناظم رحمه الله تعالى:

فَصَاحَةُ المُفْرَدِ فِي سَلاَمَتِهْ

مِنْ نُفْرَةٍ فِيهِ وَمِنْ غَرَابَتِهْ

وَكَونُهُ مُخَالف الْقِيَاسِ

ثُمَّ الفَصِيحُ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ

مَا كَانَ مِنْ تَنَافُرٍ سَلِيمَا

وَلَمْ يَكُنْ تَألِيفُهُ سَقِيمَا

وَهْوَ مِنَ التَعْقِيدِ أَيْضاً خالِي

قلت:

لما كانت معرفة البلاغة متوقفة على معرفة الفصاحة وجوب تقديم تعريف الفصاحة، ولما كانت معرفة فصاحة الكلام والمتكلم متوقفة على معرفة فصاحة المفرد؛ وجب تقديمها عليهما، فلذا قال الناظم رحمه الله: ( فصاحة المفرد...).

والفصاحة في اللغة :الظهور والبيان، يقال:أفصح الصبح: إذا ظهر وبان، ومنه قوله تعالى حكاية عن موسى -على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام- { وأخي هارون هو أفصح مني لسانا}، أي أبين مني قولا.

والفصاحة تشمل كما ذكر الناظم رحمه الله: الكلمة المفردة والكلام المركب والمتكلم.

(1) الكلمة المفردة:

لتكون الكلمة المفردة فصيحة فيجب أن تكون سليمة من ثلاثة أمور، وهي التي ذكرها الناظم رحمه الله بقوله: (من نفرة فيه ومن غرابته وكونه مخالف القياس ).

أ) – التنافر: وهو وصف في الكلمة يوجب ثقلها على السمع وصعوبة أدائها باللسان.
وضابطه: الذوق السليم المكتسب بالنظر في كلام الفصحاء والتمرس على أساليبهم.
فمن ذلك:

*كلمة ( الهُعْخَغ ) - بضم الهاء - من قول الأعرابي حين سئل عن ناقته، فقال:"تركتها ترعى الهعخع"، أي:العشب.

فهنا نرى عدم ائتلاف ( الهاء ) و ( العين ) و( الخاء ) في هذه الكلمة، مع أن ( الهاء ) و( العين ) لا يكادان يجتمعان من غير فصل.

ب)- الغرابة: وهي أن تكون الكلمة وحشية غير ظاهرة المعنى، ولا مألوفة الاستعمال عند الفصحاء؛ بحيث يستعصي على المرء فهمها إلا بالرجوع إلى المعاجم.
والغرابة إما أن تكون بسبب ندرة استعمال الكلمة عند العرب:
مثال ذلك:

*قول أعرابي وقد سقط عن حماره فاجتمع عليه الناس: "مالكم تكأكأتم عل كتأكئكم على ذي جنة، انفرقعوا".

تكأكأتم:اجتمعتم.

انفرقعوا:تنحوا عني.

وإما أن تكون بسبب أن التوصل إلى المراد منها في الكلام يحتاج إلى تخريج متكلف.
مثال ذلك:

*قول رؤبة بن العجاج:

ومقلة وحاجبا مزججا            وفاحما ومرسنا مسرجا

فقوله :"مسرجا" كلمة وحشية غريبة اختلفوا في المراد بها، فقيل: هو من قولهم: "السيوف سُرَيجية"، أي منسوبة إلى حداد يقال له:"سريج"، والمعنى: أن أنفه في الدقة والإستواء مثل السيف السريجي.

وقيل إنها من السِّرَاج، يريد أن أنفه في البريق واللمعان مثل السراج.

ج)- مخالفة القياس: كأن يخالف أصول النحو وقواعد الصرف.

من ذلك :قول أبي النجم ابن قدامة:

الحمد لله العلي الأجْلَلِ           أنت مليك الناس ربّاً فاقْبَلِ

فـ (الأجلل) القياس فيها:الأجل بالإدغام.

هذا وقد أضاف بعضهم أمرا رابعا:وهو:

*ثقل اللفظ: أي أن تكون الكلمة قبيحة؛ بحيث تصك الآذان وتمجها الأسماع.

فمن ذلك :

*كلمة ( البعاق ) أي السحابة الممطرة ، فإنها كلمة تصك الآذان ، وتمجها الأسماع ، وينفر منها الذوق السليم ، بعكس "المزنة" و "الديمة" ، اللتان لهما معنى كلمة " البعاق" نفسه ، فإن الذوق السليم يركن إليهما لسلاستهما وعذوبتهما.

وقد أجيب بأن هذا يندرج تحت النوع الثاني ، أعني:الغرابة ، والله تعالى أعلم.

(2) فصاحة الكلام المركب:

يكون الكلام المركب فصيحا إذا انتفى عنه ثلاثة أمور ذكرها الناظم رحمه الله تعالى، وهي :
التنافر، وعبر عنها بقوله: ( ما كان من تنافر سليما ).

ضعف التأليف. وهي التي عبر عنها بقوله: (ولم يكن تأليفه سقيما )

التعقيد. وهي المقصودة بقوله: ( وهو من التعقيد أيضا خالي ).

هذا بالإضافة طبعا إلى أن تكون كلماته المفردة فصيحة.

أ) – التنافر: أي أن تكون الكلمات ثقيلة على اللسان، وإن كان كل منها فصيحا.

مثال ذلك: قال الشاعر:

وَقَبْرُ حَرْبٍ بِمَكَانٍ قَفْرُ             وَلَيْسَ قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ

فالألفاظ "قبر- حرب - قفر- قرب" فصيحة في ذاتها ، لكنها لما اجتمعت قربت مخارج حروفها مما جعلها مستكرهة وثقيلة ، هذا بالإضافة إلى عقم المعنى.
ب)- ضعف التأليف : أي مناقضته لقواعد النحو والصرف والمألوف من أساليب العرب. من ذلك:

قول سيدنا حسان بن ثابت رضي الله عنه يرثي مطعم بن عدي أحد رؤساء المشركين،وكان يدافع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويذود عنه:

وَلَوْ أَنَّ مَجْداً أَخْلَدَ الدَّهْرَ وَاحِداً         مِنَ النَّاسِ أَبْقَى مَجْدُهُ الدَّهْرَ مُطْعِماً

فهنا رجع الضمير على متأخر لفظا ورتبة، فإن الضمير في قوله :"مجده" راجع إلى "مطعما"، وهو متأخر في اللفظ وفي الرتبة لأنه مفعول به.

ومعنى البيت: لو أن مجدا مهما كان عظيما جعل من يتصف به يخلد طوال الدهر، لكان مجد مطعم بن عدي مخلدا له.

ج)- التعقيد : وهو على قسمين:

لفظي

ومعنوي

* اللفظي : هو أن يكون الكلام خفي الدلالة على المعنى المراد بسبب تأخير الكلمات أو تقديمها على مواطنها الأصلية ، وذلك كتقديم الصفة على الموصوف ، والصلة على الموصول ، أو بالفصل بين الكلمات التي يجب أن تتجاور ويتصل بعضها ببعض.

من ذلك:

*قول الفرزدق في إبراهيم خال هشام بن عبد الملك:

وَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إِلاَّ مُمَلَّكاً                أَبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُهُ

مُمَلَّكاً :أي رجلا أعطي الملك،يعني:هشام بن عبد الملك.

أَبُو أُمِّهِ :أي أبو أم ذلك المملك هشام.

أَبُوهُ :أي أبو إبراهيم خال هشام.

ومعنى البيت : أن إبراهيم لا يماثله أحد أو يدانيه في الفضل إلا ابن أخته هشام.

فهنا فصل بين المبتدأ والخبر،أعني "أبو أمه أبوه"، بلفظة "حي".

وفصل بين الموصوف وصفته، أعني "حي يقاربه"، بلفظة "أبوه"

وقدم المستثنى على المستثنى منه ، أي "مملكا" على "حي"

وفصل بين البدل والمبدل منه ، أي "حي"و "مثله"

فمثله : اسم ما ، و"في الناس" خبره ، و "إلا مملكا" منصوب لتقدمه على المستثنى منه.
* المعنوي: وهو اضطراب وغموض في المعنى ينشأ عن استعمال المتكلم لكلمات في غير معانيها الحقيقية ، فيلتبس الأمر على السامع ، ولا يعي مقصود المتكلم.

من ذلك:

*قول العباس بن الأحنف:

سَأَطْلُبُ بُعْدَ الدَّارِ عَنْكُمْ لِتَقْرُبُوا           وَتَسْكُبُ عَيْنَايَ الدُّمُوعَ لِتَجْمُدَا

فهنا جعل الشاعر سكب الدموع كناية عما يلزم فراق الأحبة من الكآبة والحزن ، وهو معنى جيد، ولكنه أخطأ عندما جعل جمود العين كناية عما يوجبه التلاقي من الفرح والسرور، فإن الانتقال من جمود العين إلى بخلها بالدموع حال إرادة البكاء وهي حال الحزن لا إلى ما قصده من السرور الحاصل بالملاقاة.

هذا وقد أضاف بعضهم أمرين:

كثرة التكرار.

وتتابع الإضافات .

*- كثرة التكرار: يعني تكرر الضمائر . فمن ذلك:

قول المتنبي يصف فرسا:

وَتُسْعِدُنِي فِي غَمْرَةٍ بَعْدَ غَمْرَةٍ            سَبُوحٌ لَهَا مِنْهَا عَلَيْهَا شَوَاهِدُ

ورُدَّ بأن ذلك إن ثقل اللفظ على اللسان بسببه فهو يندرج تحت تنافر الكلمات.

وإلا فلا يخل بفصاحة التركيب ، وقد وقع في القرآن جملة من ذلك.

ومنه قوله تعالى:{والشمس وضحاها...}الآيات، فكرر الضمائر.

*- تتابع الإضافات : أي تواليها وترادفها في الجملة الواحدة . ومن ذلك: قول ابن بابك:

حَمَامَةَ جَرْعَى حَوْمَةِ الجَنْدَلِ اسْجَعِي        فَأَنْتِ بِمَرْأَى مِنْ سُعَادَ وَمَسْمَعِ

فهنا أضاف الشاعر ( حمامة ) إلى ( جرعى )، وأضاف (جرعى ) إلى (الجندل) فتوالت الإضافات.

ورد بأنه ورد في القرآن جملة من ذلك، نحو قوله تعالى:{ذكر رحمة ربك عبده زكريا }.

(3) فصاحة المتكلم:

والمراد بها مَلَكَةٌ يُقْتَدَرُ بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح.

قال الشيخ عبد لرحمن حسن حبنكه الميداني:" ومع هذه الهبة الفطرية لا يكون المتكلم فصيحا في اللسان العربي حتى يكون ملما باللغة العربية ، عالما بقواعد نحوها وصرفها ، واسع الإطلاع على مفرداتها ومعانيها الدقيقة ، كثير النظر في كتب الأدب ، مطلعا على أقوال كبار الفصحاء ، له دراية بأساليب العرب في شعرهم ونثرهم وأمثالهم ، وكناياتهم ومجازاتهم، حافظا لطائفة جمة من عيون كلام فصحائهم وبلغائهم من أهل النثر وأهل الشعر، وأن يمارس موهبته بالتطبيقات العملية ، حتى يكتسب مهارة التعبير عن مقاصده ، وما يجول في نفسه من معان بكلام فصيح"(البلاغة العربية1/127).

وقد أخر الناظم رحمه الله تعالى الإشارة إلى فصاحة المتكلم حتى تعريف البلاغة وذكر البليغ، وآثرت ذكره والتنبيه عليه هنا لكونه أنسب هنا، وتسهيلا على الطالب.

هذا والله تعالى أعلم.

بقلم : هشام حيجر
خريج دار الحديث الحسنية من المغرب الأقصى ، صدرت له مجموعة من الإصدارات العلمية ، تستطيع متابعتي من خلال ما يلي :

0 التعليقات :

 
واحة الفقيه والمتفقه © 2010 | تعريب وتطوير : سما بلوجر | Designed by Blogger Hacks | Blogger Template by ColorizeTemplates