الباب الأول: أحوال الإسناد الخبري [1]

السبت، مايو 05، 2012 التسميات:

بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله

 

854

الباب الأول: أحوال الإسناد الخبري

قلت:

الإسناد: هو ضم كلمة أو ما يجري مجراها إلى أخرى، بحيث يفيد الحكم بأن مفهوم إحداها ثابت لمفهوم الأخرى، أو منفي عنها.

الخبري: نسبة إلى الخبر، وهو ما يحتمل الصدق والكذب لذاته؛ أي: احتمال الصدق والكذب في الكلام الخبري حيث إنه خبر، بغض النظر عن مصدره، أما إذا اعتبرنا مصدره، فهو على ثلاثة أقسام:

1- قسم لا يحتمل إلا الصدق، وهو كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

2- قسم لا يحتمل إلا الكذب، وذلك مثل كلام المتنبئة؛ أمثال: مسيلمة والعنسي وسجاح.

3- قسم يحتمل الصدق والكذب، وهو كلام العامة.

وعليه؛ فإن المراد بالإسناد الخبري هو: الحكم بالسلب أو الإيجاب؛ أي: الحكم بأن النسبة واقعة؛ نحو: "زيد قائم"، أو غير واقعة؛ نحو: "زيد ليس بقائم".

والكلام على الإسناد الخبري سيكون في مباحث، بحسب إيراد الناظم رحمه الله تعالى لها. وبالله التوفيق.

[1]- أغراض الخبر:

قال الناظم رحمه الله تعالى:

إِنْ قَصَدَ المُخْبِرُ نَفْسَ الحُكْمِ

فَسَمِّ ذَا فَائِدَة وَسَمِّ

إِنْ قَصَدَ الأِعْلاَ مَ بِالْعِلْمِ بِهِ

لاَزِمَهَا ........................

قلت:

حاصل ما أشار إليه الناظم رحمه الله تعالى هنا: أن الخبر يأتي لأحد غرضين:

1- إفادة المخاطب الحكم الذي تضمنه الخبر، ويسمى: "فائدة الخبر"؛ كأن تقول: "نجح زيد"، لمن يجهل نجاحه. وهذا معنى قوله رحمه الله: (إِنْ قَصَدَ المُخْبِرُ نَفْسَ الحُكْمِ، فَسَمِّ ذَا فَائِدَة ). وهذا هو الأصل في كل خبر.

2- إخبار المخاطب بحكم ليس مجهولا له، أي: أنه لا يُرِيدُ به إفادةَ المخاطب شيئا يجهله لكونه معلوما له، وإنما يريد إفادته أن المتكلم يعلم به؛ كأن تقول لصاحب دار: "أنت صاحب هذه الدار"، ويسمى هذا الغرض: "لازم فائدة الخبر". وهذا مراده رحمه الله بقوله: (وَسَمِّ إِنْ قَصَدَ الأِعْلاَمَ بِالْعِلْمِ بِهِ لاَزِمَهَا).

هذا وقد ينزل المخاطب العالم بفائدة الخبر ولازمها أو بأحدهما منزلة الجاهل، لعدم جريه على موجب العلم، بأن يكون غير عامِلٍ بما عَلِمَ؛ فتقول -مثلا- للمسلم العاصي: "إن الموت حق". فهو لا يجهل ذلك، ولكن عدم عمَلِه بما عَلِمَهُ يجعله على قدم المساواة بالجاهل لتلك المسألة.

وقد يلقى الخبر لأغراض أخرى تفهم من السياق، مثل:

- إظهار الاسترحام والاستعطاف؛ كقول موسى عليه: {رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير} [القصص: 24]. فإنه لا يتصور أن يكون هذا القول منه أراد به الإفادة، لأنه يخاطب من يعلم السر وأخفى، فكيف يراد به إفادة الحكم أو لازمه؟ بل إنما سيق لأجل طلب الرحمة والعطف.

- إظهار الفخر؛ كقول أبي فراس الحمداني:

أنا القائد الحامي الذمار وإنما *** يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي

- إظهار الفرح؛ كقول أهل الجنة: {وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين} [الزمر: 74].

- إظهار الأسى والحزن؛ كقول المتنبي يرثي أخت سيف الدولة:

ذهب الذين يعاش في أكنافهم *** وبقيت في خلف كجلد الأجرب

- التوبيخ؛ كقول المؤمنين للمنافقين في موقف الحشر، بعد أن يضرب بين الفريقين بسور له باب، باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب. { ينادونهم ألم نكن معكم؟ قالوا: بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور} [الحديد: 14].

- التذكير؛ كأن يقال عند المحتضر: "لا إله إلا الله محمد رسول الله".

إلى غير ذلك، وهذه الأغراض يدل عليها الخبر دلالة تبعية، وأما الغرض الأول الذي هو إفادة الحكم فيستفاد من ذات الخبر.

[2]- طريقة إلقاء الخبر وأنواعه

قال الناظم رحمه الله تعالى:

....................................

............. وَلِلْمَقَامِ انْتَبِهِ

إِنْ ابْتِدَائِيّاً فَلاَ يُؤَكِّدُ

أَوْ طَلَبِيّاً فَهْوَ فِيهِ يُحْمَدُ

وَوَاجِبٌ بِحَسَبِ الأِنكَارِ

....................................

قلت:

حاصل ما أشار إليه الناظم رحمه الله تعالى هنا: أنه ينبغي للمخبر سواء قصد فائدة الخبر أو لازِمها، أن ينتبه للمقام، بأن يقتصر من التركيب على قدر الحاجة التي يقتضيها المقام، حتى لا يفضي به ذلك إلى الإكثار بلا فائدة.

وذلك لأن المخاطب من حيث موقفه من مضمون الخطاب على ثلاثة أحوال:

1- الخالي الذهن.

2- المتردد.

3- المنكر.

أما الخالي الذهن؛ فهو: الشخص الذي لا علم له بمضمون الخبر، فلا يعرفه سابقا، ولا يتردد فيه، فهذا يلقى إليه الخبر خاليا من أي مُؤَكِّدٍ؛ كأن يقال: "جاء زيد". ويسمى هذا الخبر: الخبر الابتدائي. وهو ما عناه الناظم رحمه الله تعالى بقوله: (إِنْ ابْتِدَائِيّاً فَلاَ يُؤَكِّدُ). ومنه قوله تعالى: {خلق الإنسان من علق} [القلم: 2].

وأما المتردد؛ فهو: الذي لم يترجح لديه ثبوت مضمون الخطاب ولا نفيه، فيلقى إليه الكلام بمؤكد واحد. ويسمى هذا الخبر: الخبر الطلبي. وهو ما عناه الناظم رحمه الله تعالى بقوله: (أَوْ طَلَبِيّاً فَهْوَ فِيهِ يُحْمَدُ). أي التوكيد. ومنه قوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون} [المؤمنون:1] فأكد بـ "قد" التي هي هنا للتحقيق. وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "إن الدين يسر".

ومنه أيضا: قول أبي نواس:

عليك باليأس من الناس *** إن غنى نفسك في الياس

وأما المنكر؛ فهو: الذي يرفض مضمون الخطاب ولا يقر به، فهذا يؤكد له الخطاب بأكثر من مؤكد حسب درجة إنكاره. ويسمى هذا الخبر: الخبر الإنكاري. وهو ما أشار إليه الناظم رحمه الله بقوله: (وَوَاجِبٌ بِحَسَبِ الأِنكَارِ).

ومثاله قوله تعالى: { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ . إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ . قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ . قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } [يس: 13-16].

فقالوا في المرة الأولى: {إنا إليكم مرسلون}، فأكدوا بـ "إن" واسمية الجملة، وفي المرة الثانية قالوا: {ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون}، فأكدوا بالقسم وإن واللام واسمية الجملة، لمبالغة المخاطبين في الإنكار حيث قالوا: { ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون}.

فائدة:

الخبر المنفي مثل الخبر المثبت في وجوهه الثلاثة المتقدمة، فيجرد من المؤكدات في الابتدائي، ويقوى بمؤكد استحسانا في الطلبي، ويتحتم تأكيده بحسب الإنكار في الإنكاري. تقول: "ما كان زيد قائما"، و"ما كان زيد لِيقوم"، و"تالله ما جليس الفاسقين بالأمين".

فائدة ثانية:

مؤكدات الخبر كثيرة، من أهمها: القسم، وقد التحقيقية، وإن، ولام الابتداء، ونونا التوكيد، والجملة الاسمية.

ومن مؤكدات النفي: القسم، وإن الزائدة، وكان، ولام الجحود، والباء.

[3]- الخروج عن مقتضى الظاهر

قال الناظم رحمه الله تعالى:

....................................

وَيَحْسُنُ التَبْدِيلُ بِالأَغْيَارِ

قلت:

المعنى: أنه يحسن تبديل ما يقتضيه الظاهر بغير ما يقتضيه، أي بأن يخاطب المخاطب بخلاف ما يقتضيه ظاهر حاله لنكتة؛ وهذا ما يسمى: "إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر". وله صور منها:

*- أن ينزل غير السائل منزلة السائل: فيؤكد له الكلام إذا تقدم ما يشير إلى حكم الخبر؛ نحو قوله تعالى: {ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون}، فإن المخاطب -سيدنا نوح عليه السلام- هنا غير شاك ولا متردد في قوله تعالى، كما أنه لم يسأل عن الغرق أو عدمه، ولكن الله تعالى لما أخبره بأنه لن يؤمن من قومه إلا من آمن معه، وأمره بصنع الفلك، دل ذلك على أنه مغرق قومه، فاستشرفت نفس نوح لطلب تأخير إهلاكهم إمهالا، أو صرف النظر عن إهلاكهم إهلاكا عاما شاملا، فبادره الله عز وجل بقوله: {ولا تخاطبني في الذين ظلموا}. وأكد له ما قضاه سبحانه من إهلاكهم بالغرق، فقال له: {إنهم مغرقون}.

*- أن ينزل من لا ينكر الخبر منزلة من ينكره، تهكما به، إذا لاح عليه شيء من أمارات الإنكار. مثاله: قول حجل بن نضلة القيسي، بشأن ابن عمه "شقيق":

جاء شقيق عارضا رمحه*** إن بني عمك فيهم رماح

فشقيق لا ينكر أن في بني عمه رماح، ولكن مجيئه واضعا رمحه عرضا من غير التفات، أمارة على أنه يعتقد أنهم عزل لا رمح فيهم وغير شجعان، فخوطب خطاب المنكر.

*- أن يجعل المنكر غير منكر، فينزل منزلة المقر؛ نحو قوله تعالى: {وإلهكم إله واحد} [البقرة:163]. فالمخاطبون منكرون للوحدانية، ومع ذلك لم يؤكد لهم الخطاب، لأن مع المنكر دلائل دالة على وحدانية الله تعالى.

 

[يتبع إن شاء الله تعالى

صلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله والحمد لله رب العالمين]

بقلم : هشام حيجر
خريج دار الحديث الحسنية من المغرب الأقصى ، صدرت له مجموعة من الإصدارات العلمية ، تستطيع متابعتي من خلال ما يلي :

 
واحة الفقيه والمتفقه © 2010 | تعريب وتطوير : سما بلوجر | Designed by Blogger Hacks | Blogger Template by ColorizeTemplates