المقامة الحلوانية (2)

الأحد، مايو 13، 2012 التسميات:

بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله

images (3)

قال العلامة أبو القاسم الحريري رحمه الله تعالى:

(فاستَجادَهُ) تَجَوَّدَهُ وعدَّهُ جيدا ( مَنْ حضَر واسْتَحْلاهُ) وجده حلوا واستحسنه (واستَعادَهُ منْهُ) طلب إعادته منه بأن قال: أعده علي (واسْتمْلاهُ) طلب أن يمليه عليه ليكتبه ( وسُئِلَ: لمنْ هذا البيتُ) أي المذكور آنفا ( وهلْ حيٌ قائِلُهُ ) فيُطْلَب لقاؤه ليُسْتَمْتَع به (أو ميتٌ؟) فيتأسف عليه ويتحسر على فوت لقائه ( فقال: أيْمُ اللهِ) أصله: أيمن الله، وهو اسم وضع هكذا للقسم ثم تحذف النون منه وهو مبتدأ خبره محذوف وتقدير الكلام: أيم الله لازمة لي. وهمزة أيم مفتوحة وقيل بكسرها أيضا، وهي همزة وصل عند سيبويه وأكثر النحويين، وهمزة قطع عند الفراء والزجاج ( لَلحَقُّ أحَقُّ أنْ يُتّبَعَ) جواب القسم ( ولَلصّدْقُ حَقيقٌ) فعيل في موضع مفعول، أي محقوق، يقال: فلان حقيق بكذا؛ أي: خليق له. وفي التنزيل {حقيق علي ألا أقول على الله إلا الحق} [الأعراف: 105]؛ أي: واجب علي ترك القول على الله إلا بالحق ( بأنْ يُستَمَعَ! إنّهُ يا قَوْمُ) منادى مفرد مبني على الضم ( لنَجيّكُمْ) محدثكم، يعني: نفسه ( مُنْذُ اليوْمِ) مجرور لأن مذ هنا بمعنى في. ومنذ ومثلها مذ إذا وليها اسم مجرور فهي حرف بمعنى "من" في الماصي، ومعنى "في" في الحاضر، و"من" و"إلى" في المعدود. وإذا وليها اسم مرفوع فهي مبتدأ وما بعدها خبرها ومعناها الأمد في الحاضر المعدود وأول مدة في الماضي أو ظرف مخبر بها عما بعدها معناها بين بين، نحو: "لقيته منذ يومين"؛ أي: بيني وبين لقائه يومان. وإذا وليتها جملة فعلية أو اسمية فهي ظرف مضاف إلى الجملة أو إلى زمان مضاف إليها (قال: فكأنّ الجَماعَةَ ارْتابَتْ) شكَّت (بعزْوَتِه) بنسبته إلى نفسه ( وأبَتْ) رفضت (تصْديقَ دِعْوَته) بالكسر في النسب، وبالفتح في الطعام وفي الدعاء (فتوجّسَ ) أحس، يقال: توجس الشيء إذا أحس به فتسمع إليه، وفي التنزيل: {فأوجس في نفسه خيفة موسى} (ما هجَسَ) خطر ووقع ( في أفْكارِهِمْ) أوهامهم (وفطِنَ) شعر (لِما بَطَنَ) خفي ( مِنِ استِنْكارِهِمْ) إنكارهم، أي: عدم تصديقهم له في نسبته البيت لنفسه (وحاذَرَ) خاف (أنْ يفْرُطَ) يسبق (إليْهِ ذمّ) قدح (أو يَلْحَقَهُ وصْمٌ) عيب (فقرأ: إنّ بعْضَ الظنّ إثْمٌ) الآية 12 من سورة الحجرات. والإثم: الذنب ( ثم قال: يا رُواةَ القَريضِ) الشعر ( وأُساةَ) جمع آسٍ، وهو الطبيب ( القوْلِ المَريضِ) الضعيف (إنّ خُلاصَةَ الجوهَر) صفوه ( تظهَرُ بالسّبْكِ) الاختبار بالنار ( ويدَ الحقّ تصْدَعُ) تشق ( رِداءَ الشّكّ) الريب (وقدْ قيلَ فيما غبَرَ) مضى (منَ الزّمانِ: عندَ الامتِحانِ. يُكرَمُ الرّجُلُ أو يُهانُ) يقال إنه من أمثال الفرس، ولهذا بعد أده حيث قال: فيما غبر (وها أنا قدْ عرّضْتُ) جعلتها عرضة (خبيئَتي) مخبوئي، فعيلة بمعنى مفعولة (للاخْتِبارِ) الامتحان (وعرَضْتُ) بالتخفيف إذا أتيت بعلى، وبالتشديد إذا أتيت باللام كما سبق (حَقيبَتي) ما يجعله الراكب خلفه وفيه رحله (على الاعْتِبارِ) الاختبار (فابْتَدَر أحدُ مَنْ حضَرَ) سبق بالكلام وبادر به ( وقال: أعرِفُ بيْتاً لمْ يُنسَجْ على مِنْوالِهِ) المنوال: الخشبة التي يلف الحائك عليها الثوب وهو هنا استعارة والمعنى أن البيت رفيع الصنعة لم يصنع بيت مثله ( ولا سمَحَتْ) جادت (قَريحةٌ) ذهن (بمِثالِهِ) مشابه له (فإنْ آثَرْتَ) اخترت وفضلت (اختِلابَ القُلوبِ) الذهاب بها وإمالتها إليك. من الخلابة، وهي: أن تخلب المرأة قلب الرجل بألطف القول وأخلبه، ويقال: امرأة خلابة؛ أي: مذهبة للفؤاد، وكذلك خلوب. ورجل خَلْبُوتٌ أي ذو خديعة. ومنه قوله:

ملكْتُم فلما أن ملكتم خَلَبْتُمو ... وشر الملوك: الخالِبُ الخَلَبُوت

(فانْظِمْ على هذا الأسْلوبِ) أي: على وفقه ونحوه (وأنْشَدَ) البيت لأبي الفرج الوأوأء الدمشقي من جملة أبيات يقول فيها:

إِنْسِيَّةٌ لَوْ بَدَتْ لِلشَّمْسِ مَا طَلَعْتْ ... لِلنَّاظِرِينَ وَلَمْ تَغْرُبْ عَلَى أَحَدِ

قَالَتْ وَقَدْ فَتَكَتْ فِينَا لَوَاحِظُهَا ... مَا إِنْ أَرَى لَقَتِيلِ اللَّحْظِ مِنْ قَوَدِ

فأمْطَرتْ لؤلؤاً مِنْ نَرْجِسٍ وَسَقَتْ ... وَرْدا وَعَضَّتْ عَلَى العُنَّابِ باِلبَرَدِ

ثُمَّ اسْتَمَرّت وقالَتْ وهي ضَاحِكةٌ ... قُومُوا انْظُرُوا كيفَ فعلُ الظَّبْيِ بالأَسَدِ

وقد أخذ هذا المعنى من أبي نواس، حيث قال:

يا قمرًا أبرزَهُ مأتمٌ ... يندبُ شجوًا بين أترابِ

يبكي فيُذرى الدرّ من نرجس ... ويلطمُ الوردُ بعنَّابِ

([شعر] فأمطَرَتْ لؤلؤاً من نرْجِسٍ) أي سالت دمعا كاللؤلؤ من عين كالنرجس ( وسقَتْ ... ورْداً) كناية عن خدها ( وعضّتْ على العُنّابِ) أي أناملها المخضوبة بالحنة (بالبَرَدِ [انتهى الشعر]) أي بأسنانها البيض. وفي البيت خمس استعارات، حيث استعار اللؤلؤ للدمع، والنرجس للعين، والورد للخد، والعناب للأصابع، والبرد للأسنان.

(فلم يكُنْ إلا كلَمْحِ البَصَرِ) نظرة العين إلى الشيء بسرعة ( أو هُوَ أقرَبُ) من لمحه ( حتى أنْشَدَ ) أي السروجي مرتجلا (فأغْرَب) أتي بغريب ( [شعر] سألتُها حينَ زارَتْ نَضْوَ) نزع وكشف ( بُرْقُعِها) نقابها (القاني) الأحمر الشديد الحمرة (وإيداعَ سمْعي أطيَبَ الخبَرِ) أي سماع صوتها ( فزَحزَحَتْ) أبعدت وأزالت، وفي التنزيل: {فمن زحزح عن النار} [آل عمران: 185]؛ أي: أبعد ونحي وأزيل عنها (شفَقاً) أي برقعها الذي هو كالشفق، والأصل في الشفق: ما يبقى من لون الشمس بعد الغروب (غشّى) غطى ( سَنا) ضوء ( قمَرٍ) كناية عن وجهها (وساقَطَتْ لُؤلؤاً) كلاما كاللؤلؤ ( من خاتَمٍ عطِرِ [انتهى الشعر]) يعني فمها. ومعنى البيتان:أنه زارته امرأة منتقبة فسألها أن تكشف عن وجهها وتسمعه صوتها، فأزالت نقابها، وأسمعته صوتا وحديثا حسنا من فم عطر. ( فحارَ الحاضِرونَ لبَداهَتِه) بادرته والبديهة والبداهة: ما قيل أو فعل أولا على عجل دون تقدم فكرة فيه ( واعتَرَفوا بنَزاهَتِه) بعده عن الدِّعوة التي ظنوها فيه ( فلمّا آنَسَ) علم ورأى (استِئْناسَهُمْ بكَلامِهِ) أنسهم به ( وانصِبابَهُمْ ) ميلهم ( الى شِعْبِ إكْرامِهِ) الشعب أوسع الطرق في الجبل (أطْرَقَ) أرخى عينيه إلى الأرض ساكتا مفكرا ( كطَرْفَةِ العَينِ) إطباق أحد الجفنين على الآخر والطرفة: المرة الواحدة ( ثمّ قال: ودونَكُمْ) أي: خذوا، وهو من الأسماء التي تقوم مقام أفعالها أو تعمل عملها (بيتَينِ آخرَينِ) أي في إجادة التشبيه (وأنشدَ) [شعر] ( وأقبَلَتْ يومَ جَدَّ البَيْنُ) تحقق الفراق (في حُلَلٍ) جمع حلة، ولا تكون الحلة إلا ثوبين: إزار ورداء من جنس واحد، وسميت حلة لأنها تحل على لابسها كما يحل الرجل على الأرض ( سودٍ) أراد بها ثياب أسف الفراق أو شعرها ( تعَضُّ بَنانَ) أطراف الأصابع ( النّادِم الحَصِرِ) الضيق وفي التنزيل: {حصرت صدورهم} [النساء:90]؛ أي: ضاقت ( فلاحَ ليْلٌ) المراد به الحلل السوداء، أو شعرها المعبر عنه بالحلل السود على ما سبق ( على صُبْحٍ) كناية عن وجهها ( أقلّهُما ) أطاق حملهما (غُصْنٌ) كناية عن قدها ( وضرّسَتِ ) من التضريس: العض، وحقيقته: التأثير في الشيء بالأضراس ( البِلّورَ) حجر أبيض شديد الصفاء، كناية عن أصابعها أو كفها ( بالدَّرَرِ [انتهى الشعر]) جمع درة، كناية عن أسنانها .

والمعنى: أنه يصف امرأة شعرت بفراق أحبابها، فتركت الزينة واستعمال الحناء، فلما حان وقت فراقهم، لبست ثياب الحزب، وأقبلت تودعهم تلهفا وتندما على فراقهم.

(فحينَئذٍ استَسْنى القوْمُ قيمَتَهُ) استرفعوا واستعظموا (واستَغْزَروا) استكثروا (ديمَتَهُ) المطر الدائم، وهو هنا كناية عن كلامه بالشعر إذ هو دائم غير منقطع (وأجْمَلوا عِشْرَتَهُ) أحسنوا صحبته (وجمّلوا قِشرَتَهُ) زينوها. وقشرة الرجل: لباسه. أو يكون جملوا من جملت الحساب إذا جمعته، فكأنهم جمعوا له شيئا وكسوه.

(قال المُخْبِرُ بهَذِهِ الحِكايَةِ: فلمّا رأيتُ تلهُّبَ جذْوَتِهِ) اشتعالها وتوقدها وأراد بالجذوة هنا: حدة ذهنه (وتألُّقَ) لمعان (جلْوَتِهِ) ما جلاه وكشفه من وجهه (أمعَنْتُ) بالغت وأدمت (النّظَرَ في توسُّمِهِ) طلب سماته وعلاماته من التوسم: تطلب الشيء بالوسم والعلامة (وسرّحْتُ الطّرْفَ) أَجَلْتُهُ (في ميسِمِهِ) علامته. وفي التنزيل: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود} [الفتح:29] ( فإذا هوَ شيخُنا السَّروجيّ. وقدْ أقْمَرَ) ابيض وصار مثل القمر (ليلُه الدّجُوجيُّ) المظلم الشديد السواد والظلمة (فهنّأتُ نفسي) قلت لها: هنيئا لك (بمَورِدِهِ) وروده وقدومه (وابتدَرْتُ) أسرعت (اسْتِلام يدِهِ) تقبيلها (وقلتُ لهُ: ما الذي أحالَ صفَتَكَ) غيرها ونقلها من حال إلى حال آخر (حتى جهِلْتُ معرِفَتَكَ؟ وأيّ شيء شَيَّبَ لحيَتَكَ) أوقعها في الشيب (حتى أنْكَرْتُ حِليَتَكَ؟) صفتك ( فأنشأ يقول) [شعر] (وقْعُ) شدة الوقوع (الشّوائِبِ) جمع شائبة الأكدار والمكاره (شَيَّبْ) أي وقوع الحوادث المختلطة شيبني ( والدّهرُ بالناسِ قُلَّبْ) كثير التحول والتقلب. وفي تهذيب الأزهري: القُلَّب: الَّذِي يقلّب الأمورَ ويصرِّفُها ويحتال لاتِّساقها ( إنْ دانَ) أطاع وانقاد ( يوماً لشَخْصٍ ... ففي غدٍ يتغلّبْ) يتخلف عن الطاعة ( فلا تثِقْ بوَميضٍ) لمعان (منْ برْقِهِ فهْوَ خُلّبْ) خداع. يقال: البرق الخلب: الذي يومض ويرجي المطر، ثم يعدل عنك، ومنه يقال للرجل الذي يعد ثم لا ينجز: "إنما هو كبرق الخلب" (واصْبِرْ إذا هوَ أضْرى) أغرى وهيج ( بكَ الخُطوبَ) الأمور الشدائد العظيمة (وألّبْ) حرّض وحشد ( فما على التِّبْرِ) خاص الذهب (عارٌ) عيب ( في النّارِ حينَ يُقلَّبْ) والمعنى: اصبر للشدائد إذا أغراها الدهر بك وحشدها، فما عليك في ذلك عيب، كما أن الذهب يسبك بالنار وهو مع ذلك عزيز القدر. (ثمّ نهضَ مُفارِقاً موضِعَهُ. ومُستَصْحِباً) آخذا في صحبته ( القُلوبَ معَهُ).

انتهى بحمد الله وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله

يتبعها إن شاء الله تعالى

المقامة الثالثة: المقامة الدينارية

بقلم : هشام حيجر
خريج دار الحديث الحسنية من المغرب الأقصى ، صدرت له مجموعة من الإصدارات العلمية ، تستطيع متابعتي من خلال ما يلي :

0 التعليقات :

 
واحة الفقيه والمتفقه © 2010 | تعريب وتطوير : سما بلوجر | Designed by Blogger Hacks | Blogger Template by ColorizeTemplates