المقامة الصنعانية (1)

الثلاثاء، ديسمبر 21، 2010 التسميات:

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله

makamate

قال العلامة أبو محمد القاسم بن علي الحريري رحمه الله:

المقامة الصنعانية

( حدّثَ الحارثُ بنُ هَمّامٍ ) اختار الحريري رحمه الله هذين الاسمين دون غيرهما لأنهم أصدق الأسماء، كما في الحديث: " أحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمان، وأصدقها: حارث وهمام"، وصدقهما أنه ليس أحد إلا وهو يحرث، أي يحاول التكسب، أو يهم بحاجته ( قالَ: لمّا اقتَعدْتُ ) ركبت، يقال: اقتعد الراعي قعوده إذا ركبه في حاجته ( غارِبَ ) سنام ( الاغتِرابِ ) التحول في البلدان والبعد عن الأوطان ( وأنْأتْني ) أبعدتني ( المَترَبَةُ ) الفقر ( عنِ الأتْرابِ ) الأصحاب المتقاربين في السن ( طوّحَتْ ) رمت ( بي طَوائِحُ الزّمَنِ ) نوائبه ومصائبه، يقال: طوَّحت بالرجل؛ إذا رميت به إلى الهلاك ( الى صنْعاء اليَمَنِ ) من أكبر مدن اليمن وأشهرها يعود تاريخها إلى سلالة سبأ من القرن السادس قبل الميلاد. كان اسمها أولاً : أزال، فلما نزل بها الأحباش ونظروا إلى مبانيها المشيدة بالحجارة قالوا هذه صنعة ومعناها بلسانهم حصينة فسميت لذلك باسم: صنعا أو صنعاء كما تعرف اليوم، ويقال أن أول من بنى مدينة صنعاء هو سام بن نوح. وهي عاصمة اليمن الآن ( فدَخَلْتُها خاويَ ) خالي ( الوِفاضِ ) جمع وفضة، وهي خريطة من أدم-جلد- تشبه الجراب تتخذها الرعاة وأشباههم للزاد اليسير ( باديَ ) ظاهر ( الإنْفاضِ ) أي نفاذ الزاد، يقال: أنفض؛ إذا فني زاده، وأنفض الجراب: إذا انتفض وسقط ما فيه من بقية الزاد ( لا أمْلِكُ بُلْغَةً ) ما يتبلغ به الشخص من يومه إلى غده ( ولا أجِدُ في جِرابي مُضْغَةً ) لقمة ( فطَفِقْتُ ) أخذت وجعلت ( أجوبُ ) أقطع، وجوب الأرض: قطعها بالمشي (طُرُقاتِها مِثلَ الهائِمِ ) الحيران ( وأجولُ ) أدور ( في حَوْماتِها ) جهاتها ( جَوَلانَ الحائِمِ ) الطائر العاطش يدور حول الماء ليشرب ولا يقدر ( وأرُودُ ) ألتمس وأطلب ( في مَسارحِ ) مرعى السرح ( لمَحاتي ) نظراتي الخفيفة ( ومَسايِحِ ) مسالك ( غدَواتي ) جمع غدوة، الذهاب أول النهار ( ورَوْحاتي ) جمع روحة، الذهاب في آخر النهار ( كريماً أُخْلِقُ ) أُهِينُ ( لهُ ديباجَتي ) حسن بشرتي، ومنه ما أنشده ابن الأعرابي للنجاشي:

هُمُ البِيضُ أَقْدَاماً ودِيباجُ أَوْجُهٍ        كِرَامٌ إِذَا اغْبَرَّتْ وُجُوهُ الأَشائمِ

( وأبوحُ ) أذكر ( إلَيْهِ بحاجتي ) بفقري ( أو أديباً تُفَرّجُ ) تزيل ( رؤيَتُه غُمّتي ) كربتي ( وتُرْوي ) تسقي ( رِوايتُه غُلّتي ) حرارة عطشي ( حتى أدّتْني ) أوصلتني ( خاتِمَةُ المَطافِ ) آخر المشي ( وهدَتْني ) دلتني ( فاتِحةُ الإلْطافِ ) بكسر الهمز، مصدر ألطف، والمراد هنا: أي حسن السؤال؛ يقال: ألطف الرجل سؤاله؛ إذا سأل برفق وتلطف، وذلك لأن الرجل الغريب إذا دخل بلدا لا يعرفها وسأل من يلقاه في الطريق من أهلها بتطلف أرشد إلى مقصوده بسرعة، فحسن سؤاله باللطف هو الذي فتح له الطريق. ويروى أيضا: الألطاف بفتح الهمز، جمع لطف، وهو الرفق، وهو راجع إلى الأول ( الى نادٍ ) مجلس ( رَحيبٍ ) واسع ( مُحتَوٍ ) مشتمل ( على زِحامٍ ونَحيبٍ ) بكاء بصوت مرتفع ( فوَلَجْتُ ) دخلت ( غابَةَ الجمْعِ )  أي وسطه، وأصل الغابة: الشجر الملتف يغيب فيه من يدخله ( لأسْبُرَ ) أختبر ( مَجْلَبَةَ الدّمْعِ ) أي السبب الجالب لبكائهم، والمعنى أنه دخل بين الناس ليعرف ما الذي أبكاهم وجلب دموعهم، ويروى أيضا: محلبة بالحاء المهملة، وهي من الحلب، يقال: انحلبت عينه؛ إذا سالت بالدمع ( فرأيتُ في بُهْرَةِ الحَلْقَةِ ) وسطها ( شخْصاً شخْتَ ) دقيق ورقيق ( الخِلْقَةِ، عليْهِ أُهْبَةُ السّياحَةِ ) أي آلة العبادة، وهي مثل العصا وركوة الماء وثياب الصوف وغير ذلك ( وله رنّةُ ) صوت ليس بقوي ( النِّياحَةِ، وهوَ يطْبَعُ ) يصنع ويصوغ، أو يزين بها كلامه ( الأسْجاعَ ) جمع سجع، وهو الكلام الذي تتوافق أجزاؤه في الوزن ( بجواهِرِ لفظِهِ ) خيار كلامه ( ويقْرَعُ ) يضرب ( الأسْماعَ ) الآذان ( بزَواجِرِ وعْظِهِ ) موانعه ونواهيه، والإضافة هنا بيانية ( وقدْ أحاطَتْ بهِ ) أحدقت ( أخلاطُ ) أصناف مختلطون ( الزُّمَرِ ) الجماعات ( إحاطَةَ الهالَةِ بالقَمَرِ ) الدارة حول القمر من نوره ( والأكْمامِ ) جمع كِمّ، وهو الغلاف الذي ينشق عن الثمر ويحيط به ( بالثّمرِ. فدَلَفْتُ إليهِ ) تقدمت، والدَّلَفُ: مشية فيها سرعة وتقارب خطو كما يمشي المقيد ( لأقْتَبِسَ ) لآخذ وأكتسب ( من فوائِدِه، وألْتَقِطَ ) أجتني ( بعْضَ فرائِدِه ) جمع فريدة، وهي النادرة تنفرد عن نظائرها ( فسمِعْتُهُ يقولُ حينَ خبّ في مجالِه ) أخذ في كلامه، والخب: السير دون إسراع ( وهَدَرَتْ ) صوَّتَت ( شَقاشِقُ ) جمع شقشقة، وهي في الأصل: الجلدة الحمراء التي يخرجها فحل الإبل من حلقه عند هياجه ورغائه ويرجع فيها هديره؛ شبه صوت الواعظ حين يرفعه ويزجر به الناس بصوت البعير يهيج ويتابع الهدير ( ارتِجالِه ) ابتداء كلامه من غير تهييء قبل ذلك ( أيّها السّادِرُ ) الذي لا يهتم لشيء ولا يبالي ما يصنع، أو الراكب هواه لا يرده شيء استطالة وبغيا ( في غُلَوائِهِ ) ارتفاعه للشر ولجاجه فيه ( السّادِلُ ) المرخي ( ثوْبَ خُيَلائِهِ ) كبره ( الجامِحُ ) الجاري إلى غير غاية، يقال: جمح الفرس؛ إذا أكب رأسه وجرى في غير قصد ( في جَهالاتِهِ، الجانِحُ ) المائل ( الى خُزَعْبِلاتِه ) أباطيله ( إلامَ تسْتَمرُّ على غَيّكَ ) ضلالك ( وتَستَمْرئُ ) تستطيب، من المريء، وهو ما سهل وساغ في الحلق، ومنه قيل لمجرى الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة: مريء، وفي التنزيل {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}. قال ابن جزي: "وهما صفتان من قولك هنؤ الطعام ومرؤ؛ إذا كان سائغا لا تنغيص فيه، وهما وصف للمصدر؛ أي أكلا هنيئا أو حال من ضمير الفاعل، وقيل: يوقف على فكلوه ويبدأ هَنِيئاً مَرِيئاً على الدعاء". ( مرْعَى بغْيِكَ؟) ظلمك ( وحَتّامَ تتَناهَى ) تبلغ النهاية ( في زهوِكَ ) عجبك وكبرك ( ولا تَنْتَهي ) تمتنع ( عن لَهوِكَ؟ تُبارِزُ ) تكاشف وتقابل ( بمَعصِيَتِكَ، مالِكَ ناصِيَتِكَ!) شعر مقدم الرأس ويقصد بها: جملة الإنسان ( وتجْتَرِئُ ) تقدم وتشجع من الجرأة، وهي الشجاعة والإقدام ( بقُبْحِ سيرَتِك ) عادتك وطريقتك وهيئة سيرك في الناس من حسن أو قبح ( على عالِمِ سَريرَتِكَ! ) خلاف العلانية ( وتَتَوارَى ) تختفي وتتستر ( عَن قَريبِكَ، وأنتَ بمَرْأى رَقيبِكَ! ) أي بمنظر ربك الذي يراقب أحوالك كلها ( وتَستَخْفي مِن ممْلوكِكَ، وما تَخْفى خافِيَةٌ على مَليكِكَ! ) مالكك وخالقك ( أتَظُنُّ أنْ ستَنْفَعُكَ حالُكَ، إذا آنَ ) حان وقرُب ( ارتِحالُكَ؟ ) انتقالك من الدنيا للآخرة ( أو يُنْقِذُكَ ) ينجيك ويخلصك ( مالُكَ، حينَ توبِقُكَ ) تهلكك ( أعمالُكَ؟ أو يُغْني عنْكَ ندَمُكَ، إذا زلّتْ ) زلقت ( قدَمُكَ؟ أو يعْطِفُ ) يشفق ( عليْكَ معشَرُكَ ) قومك ( يومَ يضُمّكَ مَحْشَرُكَ؟) موضعك الذي تحشر إليه، ومراده هنا: القبر ( هلاّ ) لم لا، وهي كلمة للتحضيض ( انتَهَجْتَ ) سلكت ( مَحَجّةَ ) طريق ومسلك ( اهتِدائِكَ، وعجّلْتَ) سرَّعْتَ ( مُعالجَةَ دائِكَ ) مداواة مرضك وعلتك ( وفَلَلْتَ ) كسرت ( شَباةَ ) حدَّ ( اعتِدائِكَ ) جورك وظلمك ( وقدَعْتَ ) بالدال المهملة: كففت ( نفْسَكَ فهِيَ أكبرُ أعدائِكَ؟ أما ) حرف استفتاح وإخبار ( الحِمام ) الموت والمَنِيَّة، من حمّ الأمر، إذا قضي ( ميعادُكَ ) موعدك ( فما إعدادُكَ؟) ما هيأته ( وبالمَشيبِ ) الشيب ( إنذارُكَ ) إعلامك، وفيه إشارة لقوله تعالى: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ }، قيل: الشيب؛ نقله الفراء والطبري ( فما أعذارُكَ؟ ) جمع عذر ( وفي اللّحْدِ ) الشق في جانب  القبر ( مَقيلُكَ ) مقامك ( فما قِيلُكَ؟ ) حديثك المقول وحجتك الواضحة ( وإلى الله مَصيرُكَ ) مآلك ومرجعك ( فمَن نصيرُكَ؟ ) ناصرك عدل عنه للمبالغة ( طالما أيْقَظَكَ الدّهرُ فتَناعَسْت ) أظهرت أنك ناعس ( وجذَبَكَ ) قادك بعنف ( الوعْظُ فتَقاعَسْتَ! ) تأخرت وتصعبت ( وتجلّتْ ) ظهرت ( لكَ العِبَرُ فتَعامَيْتَ ) أظهرت العمى ( وحَصْحَصَ ) ظهر وتبين، وفي التنزيل: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ }، وهو من الحص، وهو ذهاب الشعر فيتبين ما تحته ( لكَ الحقُّ فتمارَيْتَ ) جادلت مشككا ( وأذْكَرَكَ الموتُ فتَناسَيت) تغافلت ( وأمكنَكَ أنْ تُؤاسِي ) تعطي وتحسن إلى غيرك ( فما آسيْتَ! تُؤثِرُ ) تفضل ( فِلساً توعِيهِ ) تخفيه في وعاء ( على ذِكْرٍ تَعيهِ ) تحفظه ( وتَختارُ قَصْراً تُعْليهِ، على بِرٍ ) إحسان ( تُولِيهِ ) تنيله وتعطيه ( وتَرْغَبُ ) تزهد ( عَنْ هادٍ تَسْتَهْدِيهِ ) تطلب منه الهدى ( الى زادٍ تَستَهْديهِ ) تطلب إهداءه لك ( وتُغلِّبُ حُبّ ثوبٍ تشْتَهيهِ ) تهواه ( على ثوابٍ ) الثواب: المكافأة على الفعل، وأراد به ما يجازي به الله عبده على فعل الطاعة ( تشْتَريهِ. يَواقيتُ ) جواهر ( الصِّلاتِ ) جمع صلة، وهي العطية ( أعْلَقُ ) ألصق ( بقَلبِكَ منْ مَواقيتِ ) أوقات ( الصّلاةِ ) ومما يستحسن من تجنيس الصِّلات والصَّلاة: حكاية أحمد بن المدبر، وكان إذا مدح ولم يعجبه مديحه قال لغلامه: امض به إلى المسجد فلا تفارقه حتى يصلي مائة ركعة! فكان يتحامى مدحه الشعراء إلا المجيدين، فجاءه الحسين بن عبد الرحمان البصري المعروف بالجمل واستأذنه في مدحه، فقال له: أعرفت الشرط؟ قال: نعم،  وأنشد:

أردنا في أبى حسن مديحا ... كما بالمدح يُنْتَجَعُ الولاة

فقلنا: أكرم الثقلين طرّا ... ومن كفّاه دجلة والفرات

فقالوا: يقبل المدحات لكن ... جوائزه عليهنّ الصّلاة

فقلت لهم: وما تغنى صلاتى ... عيالى! إنما تغني الزّكاة  

فأما إذ أبى إلا صلاتى ... وعاقتنى الهموم الشاغلات 

فيأمر لى بكسر الصّاد منها ... لعلي أن تنشِّطني الصِّلات 

فيصلح لي على هذي حياتي … ويصلح لي على هذي الممات

فضحك واستظرفه وأحسن صلته . ( ومُغالاةُ ) مزايدة ( الصَّدُقاتِ ) بفتح الصاد وضم الدال جمع صدقة، وفي التنزيل {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } أي مهورهن ( آثَرُ عندَكَ من مُوالاةِ ) متابعة ( الصَّدَقاتِ. وصِحافُ ) جمع صحيفة، وهي الورقة يكتب فيها ( الألْوانِ، أشْهى إلَيْكَ منْ صَحائِفِ الأدْيانِ ) جمع دين ( ودُعابَةُ ) ممازحة وملاعية، وفي الحديث: "هلا بكرا تداعبها وتداعبك"؛ أي تلاعبها وتلاعبك ( الأقْرانِ ) الأصحاب المقارنين في السن غالبا ( آنَسُ ) أكثر إيناسا ( لكَ منْ تِلاوَةِ القُرْآنِ! تأمُرُ بالعُرْفِ ) المعروف، وهو كل ما يستحسن عقلا وعرفا ( وتَنتَهِكُ ) تهتك ( حِماهُ ) ما حُمي منه ومنع ( وتَحْمي ) تمنع وتذوذ ( عنِ النُّكْرِ ) المنكر، وهو كل ما يستقبح عقلا وعرفا ( ولا تَتحاماهُ! ) تتباعد عنه ( وتُزحزِحُ ) تُبْعِد ( عنِ

الظُلْمِ ثمْ تغْشاهُ ) تأتيه وتباشره ( وتخْشَى الناسَ واللهُ أحقُّ أنْ تخْشاهُ! ) تخافه ( ثمّ أنْشَدَ: تباً ) خسرانا وهلاكا، وتبت يداه: خسرت، وفي التنزيل {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} أي غير خسار وهلاك ( لطالِبِ دُنْيا ... ثَنى ) عطف ( إلَيها انصِبابَهْ ) ميله ( ما يسْتَفيقُ ) يستريح ( غَراماً ) شدة حب لازم غير مفارق، وفي التنزيل { إن عذابها كان غراما } أي لازما غير مفارق ( بها وفَرْطَ صَبابَهْ ) شدة شوق ومجاوزة حد في ذلك ( ولوْ دَرى ) علم ( لَكفَاهُ مما يَرومُ ) يقصد ( صُبابَهْ ) بضم الصاد قليل، وأصله بقية الماء.

يتبع إن شاء الله تعالى

بقلم : هشام حيجر
خريج دار الحديث الحسنية من المغرب الأقصى ، صدرت له مجموعة من الإصدارات العلمية ، تستطيع متابعتي من خلال ما يلي :

 
واحة الفقيه والمتفقه © 2010 | تعريب وتطوير : سما بلوجر | Designed by Blogger Hacks | Blogger Template by ColorizeTemplates