المقامة الدينارية (2/1)

بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله

قال العلامة أبو القاسم الحريري رحمه الله تعالى:

(رَوى الحارثُ بنُ هَمّامٍ قال: نظَمَني) جمعني (وأخْداناً) جمع خدن وخدين، وهو الصاحب والصديق (لي نادٍ) مجلس (لمْ يخِبْ فيه مُنادٍ) متكلم (ولا كَبا) شح (قدْحُ) ضرب (زِنادٍ) حديدة النار (ولا ذكَتْ) اشتعلت (نارُ عِنادٍ) خلاف ومراده وصف خلانه بالمواءمة وترك المراء والجدل (فبيْنَما نحنُ نتجاذَبُ أطْرافَ) جمع طرف وهي نواحي الشيء (الأناشيدِ) واحدة الأنشودة والمراد بها ما يتناشدونه من الأشعار بينهم، ومراده: أنه إذا أنشد أحدهم شعرا ليغرب به شاركه الباقون في إنشاده لحفظهم الأشعار فكأنهم يتجاذبونها كما يتجاذب أطراف الثوب (ونَتوارَدُ) يورد بعضنا على بعض (طُرَفَ) جمع طرفة، وهي الشيء العجيب من كل شيء الذي لا يوجد له نظير (الأسانيدِ) جمع إسناد،  وأصله الإضافة، فالإسناد: إضافة الحديث إلى غيرك، والمقصود: أنهم تارة يتناشدون الأشعار، وتارة يتساندون الأخبار (إذْ وقَفَ بِنا شخْصٌ علَيْهِ سمَلٌ) ثوب خلق (وفي مِشيَتِهِ قزَلٌ) عوج.

(فقال: يا أخايِرَ) جمع أخير، نحو: أفضل وأفاضل، وأخير: شاذ، أو هو جمع أخيار، وأخيار جمع خير، وهو كثير الخير. (الذّخائِرِ) جمع ذخيرة وهي الشيء النفيس الغالي (وبشائِرَ) جمع بشارة (العَشائِرِ) جمع عشيرة وهي قرابة الرجل من قبيلته (عِموا) أمر من وَعَمَ يَعِمُ (صَباحاً) دعاء لهم بالنعمة في الصباح، أي: جعلكم الله تنعمون في صباحكم (وأنْعِموا اصطِباحاً) الاصطباح: أن يصبحوا وهم يشربون، والمعنى: أي طاب شربكم في الصباح وتنعمتم به (وانظُروا الى مَنْ كان ذا) صاحب (نَديّ) مجلس القوم ومتحدثهم ماداموا فيه، فإن تفرقوا فليس بندي. وعنى بذلك أنه كان من أشراف الناس الذين يقعد ويجتمع عندهم (ونَدًى) جود وكرم (وجِدَةٍ) غنى (وجَدًى) عطاء (وعَقارٍ) المال غير المنتقل كالدور والأرضين والنخل (وقُرًى) جمع قرية (ومَقارٍ) جفان يقرى فيها الأضياف (وقِرًى) طعام الضيف (فما زالَ بهِ قُطوبُ) عبوس (الخُطوبِ) الشدائد (وحُروبِ الكُروبِ) الهموم (وشَرَرُ) جمع شَرَرَة، وهو ما يتطاير من النار (شرِّ الحَسودِ) من يتمنى زوال نعمة الغير، ومقصوده أن الحسود اتبع ماله بالعين حتى أهلكه (وانْتِيابُ) نزول (النُّوَبِ السّودِ) جمع نائبة وهي الحادثة والمصيبة (حتى صفِرَتِ الرّاحَةُ) خلت من الدراهم (وقرِعَتِ) صارت قرعاء أي خالية (الساحَةُ) فناء الدار (وغَارَ المنْبَعُ) جف الماء النابع (ونَبا) ارتفع غير وطئ فلم تمكن الإقامة فيه (المَرْبَعُ) المنزل (وأقْوى) خلا (المجْمَعُ) موضع الاجتماع (وأقَضّ) خشن وصار فيه القضض، وهي الحجارة (المضْجَعُ) موضع الرقاد (واستَحالَتِ الحالُ) تغيرت (وأعْوَلَ) بكوا (العِيالُ) جمع عيل، وهو: من يفتقر إلى الرجل في مؤنته ونفقته (وخَلَتِ المَرابِطُ) جمع مربط وهو الموضع الذي تربط فيه الخيل (ورَحِمَ الغابِطُ) الذي يتمنى مثل ما لك ولا ينقص منه شيء (وأودى) هلك (النّاطِقُ) كل ما يتملك من ذي روح  (والصّامِتُ) الذهب والفضة (ورَثى لَنا الحاسِدُ والشّامِتُ)  أي أشفقوا عليهم (وآلَ) رجع ( بِنا الدّهرُ الموقِعُ) المهلك (والفَقْرُ المُدْقِعُ) الملصق بالدقعاء وهو التراب (الى أنِ احْتَذيْنا) انتعلنا (الوَجى) الحفا ومراده توجع باطن القدمين من الحفا (واغْتذَينا الشّجا) ما يعرض في الحلق، كناية عن سوء الحال، لأن الوجى لا ينتعل، والشجى ليس بغذاء، وإنما هو مشقة وتعب، فكأنه يقول: إنه ينتعل ما لا ينتعل، ويتغذى ما ليس بغذاء، والمعنى: ليس ثم انتعال ولا غذاء (واستَبْطَنّا) جعلناه في بطوننا (الجَوى) وجع البطن (وطَوَيْنا الأحْشاءَ على الطّوى) الجوع (واكْتَحَلْنا السُهادَ) السهر وعدم النوم (واستَوطَنّا) اتخذناه وطنا (الوِهادَ) ما انخفض من الأرض (واستوطأنا) وجدناه وطيئا (القتاد) شجر له شوك شديد (وتناسينا الأقتاد) جمع قتد وهو خشب رحل البعير ومراده أنهم نسوا ركوب المطايا لبعد عهدهم بها ورجعوا الآن يمشون على الشوك فيجدونه وطيئا (واستطبنا) رأيناه طيبا (الحين) الموت (المجتاح) المستأصل (واستَبْطأنا) وجدناه بطيء المجي (اليومَ المُتاحَ) المقدر (فهل من حُرٍّ آسٍ) طبيب يطب علة الفقر، والجمع: أساة (أو سمْحٍ) كريم جواد (مُواسٍ؟) معين (فوَالّذي استَخْرَجَني من قَيلَة) هي أم الأوس والخزرج (لقَد أمْسَيتُ أخا عَيْلَة) فقر وفي التنزيل {وإن خفتم عيلة} (لا أمْلِكُ بِيتَ ليْلَة) قوت يبيت عليه ليلة.

(قال الحارِثُ بنُ همّامٍ: فأوَيْتُ) أشفقت وحننت (لمَفاقِرِه) جمع فقر على غير قياس، أي: رحمته لأجل فقره وحاجته (ولوَيْتُ) ملت (الى استِنْباطِ) استخراج (فِقَرِهِ) فواصله (فأبْرَزتُ) أظهرت (ديناراً. وقُلتُ لهُ اختِباراً)  امتحانا (إنْ مدَحْتَهُ نَظْماً)  بكلام منظوم (فهوَ لكَ حتْماً) واجبا (فانْبَرى) تقدم (يُنشِدُ في الحالِ. من غيرِ انتِحال) تكلف.

[شعر]: (أكْرِمْ بهِ) أي ما أكرمه (أصفَرَ راقَتْ) أعجبت (صُفرَتُهْ ... جوّابَ آفاقٍ) قطاع بلاد (ترامَتْ سَفرَتُهْ) بعدت غيبته (مأثورَةٌ) مروية محدث بها (سُمعَتُهُ) ذكره المسموع (وشُهرَتُهْ) ظهور أمره (قد أُودِعَتْ) ضمنت (سِرَّ الغِنى أسرّتُهْ) خطوط وجهه، ومراده: نقشه. والمعنى: أن بين سطوره سر الغنى، فمن ملكه ملك الغنى (وقارَنَتْ) ساوت (نُجحَ المَساعي) الظفر بإدراكها (خطرَتُه) حركته (وحُبِّبَتْ الى الأنامِ) الخلق (غُرّتُهْ) وجهه (كأنّما منَ القُلوبِ نُقْرَتُهْ) القطعة المسبوكة من الذهب والفضة وهذا مأخوذ من قول البحتري:

فكل قلب إليه منصرف *** كأنه من جميعها خلقا

(بهِ يصولُ) يقهر ويغلب (مَنْ حوَتْهُ) ضمته (صُرّتُهْ) الصرة: الخرقة التي تصر فيها الدراهم (وإنْ تَفانَتْ) هلكت (أو توانَتْ) قصرت وضعفت عن نصرته (عِتْرَتُهْ) قرابته الأدنون (يا حبّذا نُضارُهُ) ذهبه (ونَضْرَتُهْ) حسنه (وحبّذا مَغْناتُهُ) منابه يريد: أنه ينوب عن الإنسان في المضايق (ونصْرَتُهْ ... كمْ امرء بهِ استَتَبّتْ) استقامت (إمرَتُهْ) ولايته (ومُتْرَفٍ) متنعم (لوْلاهُ دَامَتْ حسْرَتُهْ) تفجعه (وجيْشِ همٍّ هزمَتْهُ كرّتُهْ) رجعته (وبدرِ تِمٍّ) القمر ليلة الكمال ومراده به شخص يشبه البدر في حسنه ورفعته (أنزَلَتْهُ) عن رتبته (بدْرَتُهْ) البدرة: عشرة آلاف درهم (ومُستَشيطٍ) شديد الغضب (تتلظّى) تتلهب (جمْرَتُهْ) شدة غيظه (أسَرّ نجْواهُ) أخفى حديثه سرا (فلانَتْ شِرّتُهْ) غضبه وحدته (وكمْ أسيرٍ أسْلمَتْهُ) تركته (أُسرَتُهْ) قومه (أنقَذَهُ) خلصه وفكه (حتى صفَتْ مسرّتُهْ) فرحه (وحقِّ موْلًى أبدَعَتْهُ) أوجدته قبل أن يكون (فِطْرَتُهْ) خلقته (لوْلا التُقَى لقُلتُ جلّتْ) عظمت (قُدرتُهْ) [انتهى الشعر].

يتبع إن شاء الله تعالى